«اعتدت البحث والمطالعة منذ صغري بتشجيع من بيئتي، وأثناء وجودي في الجامعة الأمريكية في "بيروت" ولهت بجمع الكتب من مكتبات "الشهداء" (ساحة وسط بيروت) والمكتبات المحيطة، فلم أكن أسمع بكتاب يزور دور البيع حديثاً إلا واشتريته وقرأته وطرحت خلاصته على زملائي في الجامعة ومن أعرفه في الوسط الحياتي».
والكلام للأديب "جاد الله عز الدين" الذي تحدث لموقع eSuweda حول إرثه الأدبي ومقتطفات جميلة اختارها من حياته وذلك خلال الحوار التالي:
** قبل الوحدة بين سورية ومصر أمضيت /4/ أعوام في "القاهرة" وبعد الوحدة سنتين، وأثناء دراستي هناك في جامعة "عين شمس" ازدادت رغبتي في القراءة والمعرفة ولم يكن آن ذاك الاكتراث بالكتب كبيراً، وذلك جعلني في غبطة دائمة ففي صباح كل يوم أنزل إلى ساحة "الأزبكية" فأرى جموعاً من البائعين وأمامهم العديد من الكتب يعرضونها للناس وأكثرها من الطبعات القديمة ذات الورق الأصفر الرقيق والثخين ومنها ذات الورق الأبيض المصقول وقد مالت إلى الصفرة الداكنة من شدة القدم وكثرة الأيدي التي تصفحت أوراقها، قسم كبير من هذه الكتب كان يعرض في شوارع "القاهرة" والحارات الضيقة والمنفتحة على بعضها وبدوري أجول بين البائعين وأتصفح منها ما يبهج النفس ويمد بالمعرفة ويبعث إلى يقظة الحرية والفكر، والكتب كانت تباع بأسعار زهيدة وأنا ظلت أقتني منها حتى تكون لدي عالم خاص وأصبح هاجسي وشغلي الشاغل إنشاء مكتبة تحوي كل الثقافات العربية والعالمية.
** في "القاهرة" بتّ أصارع الوقت الذي يمرّ مرور السحاب، مواظباً على قراءتي لا أنقطع ولا أنشغل عنها، وقبل عودتي إلى سورية أقمت محاضرة في جامع "الأزهر" تحدثت فيها عن التاريخ العربي الإسلامي بكافة ملله وطوائفه المنشقة عنه وتعامل الغربيون معه، وأفردت جزءاً من المحاضرة للحديث عن تاريخ جبل العرب ومذهب الموحدين الدروز، وقد نال ما طرحته حظوة ومكانة رفيعة من الحضور... وعند عودتي بالكتب إلى "السويداء" عملت على إعادة تجليدها ودونت اسمي على كل مجلد، وبوبت كل مجموعة منها على شكل موسوعات ورتبتها ضمن خزن خشبية ضخمة وأخرى معدنية، وهكذا حتى اكتمل الحلم وحصلت على مكتبتي الكاملة التي تحوي /13/ ألف كتاب، وما لم أرتبه بعد/70/ صندوقاً حولياً متخمة بالكتب، وما زالت ملصقة منذ ذاك التاريخ.
** بالتأكيد فقد تعذر علي نقل الكتب بمفردي من "القاهرة" إلى سورية، وهذا دعا السفير السوري "وديع تلحوق" واللبناني "مصطفي الشهابي" إلى مساعدتي في نقلها من "القاهرة" إلى مطار "بيروت" ثم إلى "الشام" وفعلاً إن لهما الفضل الأكبر في إنشاء مكتبتي.
** ضمت مكتبتي آداباً من التراث العربي والأجنبي والديانات السماوية، وبحوثاً خاصة بعلم السياسة والاقتصاد والحكمة... وأبحاثاً عالمية تنم عما يجري في الواقع المعاصر جعلتها في خزن منفردة عن المكتبة، ولدي ما يقارب /10000/ مطبوعة ما بين مجلة وصحيفة من عام /1927/ وما أعقبها من السنوات... حيث إنني أذكر من أسمائها "الخدر" و"الصفا" و"اليسوعيين" و"المختار" و"العربي" و"المصور"... أما "الخدر" فهي أول مجلة عربية من ذلك العام تصدر في "بيروت" وهدفها الحديث عن قضايا الأدب وإبداعات الأدباء... وخلال /40/ عاماً مضت ما زالت الصحف والمجلات في مكتبتي كما هي بعضها نقل إلى دار أخرى.
** رأيت في التراث العربي جوانب النبوغ في الفكر والإبداع، عبره تعمقت بتاريخ الإنسان المجاهد الثوري، وأحسست بجمال التراث والصفوة والرجولة... الأدب العربي له حضوره ومكانته الممتدة عبر التاريخ وأكثر جوانبه وقعاً في نفسي آداب الشعر عند "ابن خلدون" وشعراء الجاهلية.
** أمضيت /60/ عاماً أقرأ وأبحث عن الجديد في محيطي الصغير وعالمي المعرفي الأوسع، تعرفت إلى نفسي وتنعمت بفضائلها... لأجد ذلك إرثاً نبيلاً لدى أبنائي "رياض" مهندس عمارة و"سعيد" مهندس ميكانيك و"وليد" خريج "الأزهر"ـ أدب عربي، و"عاصم" هندسة معماريه من "رومانية"، و"ناصر" مهندس كهرباء من جامعة "دمشق".
** عندما كنت في التعليم أحاط بي عدد من الأدباء والمثقفين شكلوا من حولي عائلة احتضنتني واحتضنتها طوال السنين الفائتة حتى بعد رحيلهم عن الحياة. لقد أمدوني بيقين ثابت وإيمان راسخ بعظمة ما أقوم به، ومكتبتي كانت مرجعاً لهم وستبقى مرجعاً للأدباء المعاصرين والطلبة الجامعيين ولاسيما من يقومون برسائل التخرج فتجدهم يزورونها ويغنون أبحاثهم منها.
** الراحل "سلامة عبيد" و"سعيد أبو الحسن" و"عيسى عصفور" و"صلاح مزهر"، إنهم من خيرة الأدباء في جبل العرب الذين حدّثوا في الرسالة الأدبية وعملوا على نهضة العلم في "السويداء"، كذلك الشعراء الراحلون "زيد الأطرش" و"صالح عمار" و"حمد المصفي" جميعهم ساهموا في نشر التراث العربي وتأكيد القيم الإنسانية، وأعود هنا بالقول: يا ليت ما كنا نسمعه من أعلامنا قبل رحيلهم يعود الآن، فقد كانوا كلمة الحق الصادقة وشعلة للعلم والفضيلة.
** السطحية والضعف سادا العمل الأدبي المعاصر في بعضه، وهذا يعود إلى الاتجاه العالمي السياسي والحياة السريعة التي قللت البحث عن الأدب العربي، وبات أدب الحياة اليومية هو الشاغل أكثر من أدب التاريخ وأصول الحياة القديمة... تبدل فرضته السياسية التي طغت على الفكر وأضاعت الحياة الإنسانية، فبات المنصرفون للأدب قليلون جداً مقارنة مع السابق، ولا ننسى قضية الاغتراب سعياً خلف لقمة العيش التي خففت من وجود الأدباء والباحثين عن العلم.