لعل الحنين والشوق إلى اللعب بالتراب، والتماهي على الصخور، تجعل الشاعر أكثر طفولة، حينما ينتقل كالفراشة من زهرة إلى زهرة، ومن رحيق ندي إلى آخر، في خميلة غناء، يصدح بها شعره حينما يشاء، والبلبل يناغيه على مقامات الشجن، كما يفعل الشاعر "فرحان الخطيب".
وحول الشاعر "الخطيب" أوضح الأديب "أحمد جميل حسن" قائلاً: «يعتبر الشاعر "فرحان الخطيب" واحداً من الشعراء المشغولين بالهم الوطني والقومي وممن يعملون على تجسيد التراث والموروث المحلي لعادات وتقاليد جبل العرب، عندما استمع إليه استمع إلى حكايا تراثية واستذكر حياة الأجداد الوطنية، كيف رسخوا مبادئ الأصالة، وهذا ما اكسبه خاصية أن يكون شاعراً للكلمة المخلصة والصادقة، ربما تجاوز أقرانه بمسافات لأسباب عديدة أهمها قلقه الدائم على إنتاج الأفضل دائماً، وهذا ما يجعله يتعب على نفسه كثيراً، حتى أصبح يتقن كتابة الشعر بحرفية. كتب للأطفال واعتقد أنه من الشعراء القلائل الذين يجيدون كتابة شعر الأطفال، ومن جهة ثانية "الخطيب" نموذج آخر عن الشعر في تكريس منظومة الكرم والطيب التي يتميز بها جبل العرب، فهو بحق الصورة المعبرة عن السويداء وأهلها أينما وجد كرماً وفناً وشعراً».
كلما قرأتُ اليوم شيئاً جديداً، عرفتُ بالأمس أنني كنتُ أجهلُ
موقع eSwueda التقى عضو اتحاد الكتاب العرب الشاعر "فرحان الخطيب" بالحوار التالي:
** يقول العقاد: «كلما قرأتُ اليوم شيئاً جديداً، عرفتُ بالأمس أنني كنتُ أجهلُ»، وكلما مرّت التجربة الشعرية في شعاب الزمن وتسلل ضوء الشـّاعريّة عبر مفاوزها المترامية أدرك المرءُ الشاعر أنه بالإمكان أن يستمر في البحث ما دامت بهجة الجدّة واختراق السّائد والمألوف قائمة، أعيد النظر بين الفينة والأخرى بما كتبت لأتصوّر أن بإمكاني أن أضيف شيئاً جديداً لما كتبت، الشعر في النهاية مغامرة الفكرة في إطار اللغة في حالة ذوقية يصعب تعريفها ووضعها بين نقطتين أو متلازمتين، وهذا يعني أن التجربة تسير إلى الأمام هكذا أظن وتبقى الرّؤى إلى عالم الفن بما في ذلك الشعر لها وجوه متعددة.
** المكان ليس تراباً وحجارة وأشجاراً، إنه المشهد الأول والصّورة التي يتعلـّق النظر بجزئياتها، بعد أن يفتح الوليد عينيه على الحياة، ترتسم في مخيلة الطـّـفل الملامح لمشاهد الجغرافيا البدئية في الحياة، على أنـّها نقطة البيكار في عالم لا يعرف نهايته، ثـُمَّ أنَّ الذاكرة تبدأ بتخزين ما تلتقطه العين، وما يحمله القلب من حنان، وما يتناثر من العمشقة الصـّبيانيّـة على الجدران والأسطح والشـّجر وصخور تل "شعف"، هذه القرية المتميّزة بأنـّها أعلى نقطة مسكونة في سورية، تصعدها علوّاً فترى ما حولك يشهق لكي يصل إليك، وأنت تنظر بإمعان شديد وبدهشة المغرور أنـّك ترى كل شيء من هذا العلو، إنـّه نقطة البدء في حياتي ولم تفارقني، وقد انتبه النقاد إلى ذلك في كتاباتهم عن مجموعاتي الشـّعريـّة..
شعفٌ كالـنــدى عليها خيوط ٌ/ من رُبا الشـّمس حين قامت تغنـّي
فهي كالصّبح في خيال الصّـبايا/ وهي كالبدر في دروب التمنّي
قريتي الحبُّ حين كنّا صغاراً/ وكبرنا ولا أزال كأنّي.
** نظرية الفن للفن والتي أظنُّها لم تجد لنفسها مكاناً إلا بقدر ما تعامد هذا الفن مع أفقية القبول على مستويات متعددة من التلقي، فالمرء قطرة تحتاج أن تشبع فهمها من الجمال المؤثر في النفس والذي يسوق إلى فكرة، موضوع، قيمة ما، في النهاية أنَّ الفن هو الذي يجمل الحياة، ويبعث في النفس قطرات من إنعاش النفس الإنسانيّة، ضمن سياق ما، والشـّعر قائم على جناحي الإبداع والتلقي وله قيمة عليا عند العرب من المعلقات حتى يومنا هذا "ولو مهما قيل" ولكي أدلل على ذلك ألا ترى معي أن أيـّة مناسبة تخدم الأمـّة في نضالها، وفي وجدانها، في صيرورتها، يتبارى الشـّعراء إلى هذه اللحظة في بث مكنوناتهم لهذا الحدث؟ ولكن المهم في الأمر ألا تفقد في منبريتك شاعريتك وإلا لا جدوى فيما تكتب.
** الشـاعر دائرة متكاملة من أجزاء تكوينه الشـّعري، ولعلَّ الشـّاعر البدوي لديه الدلالة الواضحة على ما أقول في قوله "عيون المها بين الرّصافة والجسر" بعدَ أن عاش بين النرجس والورد والياسمين في المدينة، وترك الصـّحراء ومفرداتها المقعرة والوعرة، أقول إنَّ من جزئيـّات تكويني لشعري حضوري في الإلقاء على المنبر وهذا خدمة للشعر، أمـّا بحد ذاته وبمفرده وعزله عن الشـّاعريـّة في الشـّعر، فذلك لا يجدي.
** أنا في الشـّعر، في عالم الشـّعر، لا أقيم لهذا التقسيم في الشـّعر وزناً إلا من حيث التقسيم الشكلي لهذه القصيدة أو تلك، أنا أو أي شاعر نجد أن تحقق الشـعر ربـّما يأتي بالأشكال الثلاثة وربـّما يغيب أيضاً في الأشكال الثلاثة، لستُ مع هذه الحدّة في الحكم على شاعريـّة الشـّاعر من حيث إناء القصيدة.
** أولاً لنبحث بدقة عن معنى الحداثة، أهي تجاوز للشعرية في عصرٍ مضى؟ أم هي حداثة المعنى في نص ربـَّما تجاوز العصور اللاحقة في تحديث الصـّورة الشـّعريـّة قبل أن يصل الزّمن إليها؟ أم إنَّ الحداثة هي ذاك التقليد القادم إلينا من الغرب دون صلة بالجذور كمن يزرع القمح في سيبيريا، أو يلبس الفراء على خط الاستواء؟ يا صديقي إنَّ الحداثة في الشـّعر وبكل بساطة أنظر إليها على أنـّك تستطيع كشاعر أن تجد المختلف والمؤتلف من القول بإبداع جديد لا يجعلك ضمن قوسين بعيدين عن متلق آخر يشاركك نشوة الانفعال والتأثير، وأن لا تكون كلاماً معاداً من قولنا مكرورا.
** في شعرنا العربي الكثير بل الجم من حمولات الشـّعر الزائدة عن القدرة الفنيـّة لمثل هذه الحمولات، فالمعري شطٌّ عن الفلسفة ضمن الإناء الشـّعري، والصوفيون كذلك، والشـّعراء الحكماء، عذرهم في ذلك أنَّ الشـّعر أقرب إلى النفس في حفظه لمادّته الفكرية في الصّدور والأقرب منالاً إلى ذهنيـّة المتلقي من خلال موسيقاه الشـّديدة الانصهار مع النفس الإنسانيـّة المتوثــّبة والمتحفزة دائماً لحمل الفكرة على الإيقاع ليعطي بذلك توازناً مريحاً للنفس البشريّة فمال الشـّعراء إلى هذا النـّوع من الشـّعر، في هذا السـّياق، يسيلُ لعاب قلمك إلى حدائق الفكر لتشكل إضمومة من الطـروحات التي لا أسمّيها فلسفة عندي، بل هي أفكار حملتها أيـّامي إلى أشطر وتفعيلات شعري، هي معاناة، هواجس، رؤى، ولعلَّ قصيدتي " ذات " تنحو هذا المنحى الدّقيق في شعر الفلسفة، أمـّا قصيدة المعرّي "جودٌ على فقر" والذي خاطبته فيها، هنا الحالة تستجدي الفلسفة لأنـّك في محراب شاعر الفلاسفة ومحاكاته تفرض عليك أن تقنص من مستودع أفكاره ما يليق بالخطاب في مهرجانه:
آمنتَ بالعقل حلالاً لأحجيةٍ/ وصنتَ للعقل ورداً يبتغيه ظمي
والناس، أجسادُها أقلقتَ ساكنها/ تفضُّ سترَ التي في الجسم لم تنمِ
شيخ المعرّة هل أمسكتَ جوهرها/ أم تهتَ بالبحث بين الشحم والورم؟
أنبيكَ أنا على ما غبتَ وجهتُنا/ يلفنا الدّهر لم نفنَ، ولم نَدُمِ.
** الجوائز حالة تكريميّة لإبداع متقدّم مرهونة بظروفها وبشروطها ولكن الأديب هنا كطفل يحصل على قطعة حلوى تعزيزاً لتفوقه، جميل أن يحصل الأديب على جائزة، وهذا يضعهُ في مكان ما بسياق ما بمكانة ما، وأيضاً نشعر بأنَّ ما تنتجهُ القريحة لم يذهب سدىً، ووصوله بهذا القدر إلى الآخر الذي يحمله لغةً وفنـّاً وشاعريـّةً ليضعهُ في مرتبة متقدّمة يضيف جرعة جديدة وملهمة إلى قلمك كي يصوغ الأجمل والأفضل أتصوّر ذلك، والجائزة محطـّة لا يجب التوقف عندها بقدر ما يجب أن نتأمـّل جيداً لنبدع الأحلى.