الحديث عن الأستاذ "صياح الجهيم"، يعني العودة بالذاكرة إلى الموروث العلمي المعرفي والتاريخي لذكريات طلبة أصبحوا أدباء وكتاب، والأجمل أن يأتي ذلك على ألسنتهم، وهم الذين يساهمون في تنشيط الحركة الثقافية العربية والتعليمية، ناقلين رسالة أستاذهم، مناشدين صوته ولغته بعد عقد من وفاته ويستذكرون أدبه وترجماته وفكره التربوي.
عنه تحدث أحد تلاميذه في منتصف خمسينيات القرن الماضي ومدرس لمادة اللغة العربية لأكثر من أربعة عقود من الزمن الباحث الأستاذ "قاسم وهب" لموقع eSwueda قائلاً: «بعد مضي عشر سنوات على رحيل أستاذنا "صياح الجهيم" كيف يمكن أن ننسى نحن تلاميذه إطلالته المهيبة، حين وقف أمامنا لأول مرة، فأيقظ في نفوسنا الغضة، البحث عن المعرفة والجمال، فالتعليم كما يراه آنذاك ليس وظيفة، بل رسالة يمكنه من خلالها الكشف عن ذاته وقدراته، بقدر اكتشاف ذوات الآخرين وقدراتهم، والكشف في رأيه هو النقطة التي يلتقي فيها العلم والفن، فأعظم اتجاه للعلم كشف الجديد، وفي اتجاه الفن كشف الإنسان والواقع، إضافة على أنه تميز عن أقرانه مدرسي اللغة العربية بقدرته الفائقة على فتح مغاليق اللغة والأدب، وإزالة الفجوة التي كثيراً ما تعتري الطلبة إزاء النص الجديد».
كان الجميع يلوذون بالصمت كي يستمعوا إليه، حتى إذا نطق حسم الموقف بأقل الكلام وأوضحه وأكثره تنظيماً وإقناعاً
وعن تكليفه بتعديل المناهج التربوية تابع الأستاذ "وهب" بالقول: «كان الراحل أحد المكلفين بهذه المهمة، فأدخل في تدريس الأدب موضوعات لم تكن موجودة من قبل منها المذاهب الأدبية، وبالشعر الحديث الذي كان في نظر الكثيرين من البِدَع التي لا ينبغي لها أن تفُسد أذواق الناشئة، وركز على دراسة النصوص الأدبية، واستخلاص الأحكام النقدية من خلالها، وتولى مهمة الكتابة عن الشعر الحديث ممثلاً بواحد من أبرز أعلامه وهو الشاعر "بدر شاكر السياب" في الوقت الذي كانت فيه دراسة الشعر الحديث بعيدة عن التداول الأكاديمي والرسمي في المدارس والجامعات العربية على اختلافها، فتحمل القسط الأكبر من الاعتراض والنقد من العديد من الأساتذة المكلفين بتدريسها، لأن الكثير منهم لم يواكبوا الحداثة في الشعر العربي، وفهم الشعر الحديث يتطلب حساسية خاصة وثقافة متجددة، ونظرة حضارية منفتحة، ولعل من أبرز ما يمكن التنويه به في شخصيته هو حضوره الأدبي خاصة، والثقافي عامة، هذا الحضور المتميز الذي يعرفه جميع من خالطوه، أو عايشوه أو تتلمذوا عليه، فهو من القلة الذين ينتقون كلامهم بحذق، فيختارون منه ما يناسب المقام دون زيادة أو نقصان، لذا كنت تراه يستميل بحديثه قلوب سامعيه، وإن كانوا لا يوافقونه على آرائه كلها، ومجالس الثقافة والأدب وحتى اللقاءات العابرة تزدان بوجوده وتثرى، ولعلنا لا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا: إن سيرة "صياح الجهيم" وسلوكه اليومي يمثل مدرسة تربوية حية تقرن القول بالعمل وترى أن الكلمة شرفها الذي ينبغي أن ينأى بها عن الترخص والابتذال، وعلى المتحدث أن يحسن اختيارها، ومن مناقبه إيمانه بحرية الرأي، وقدرته على قبول الآخر، في زمن كان الاختلاف في الرأي يفضي للخصومة والقطيعة».
وعن نظرته في الشعر وحداثته، أوضح الشاعر "فرحان الخطيب" أحد تلاميذه عبر الهاتف قائلاً: «الشعر الحديث في رأي أستاذنا "صياح الجهيم" هو شعر العصر، والرجوع عنه رجوع عن العصر ذاته، كما أنه ظاهرة أدبية ليست ملكاً لهذا الشاعر أو ذاك، بل هي جزء من حياتنا الأدبية، لأنها تعبر عن موقف من الحياة والمجتمع والعصر، وهذا ما دعاه إلى التساؤل: كيف نقبل بالجديد في كافة المجالات إلا في الشعر؟! وحداثة الشعر في رأيه إنما تقوم على تجاوز ذاته باستمرار، دون حصره في قوالب جاهزة، لأن ذلك يجعله شيئاً من الماضي، فيفقد طابع الحداثة، كما أن للشعر وظيفة لا تتعدى التصاقه بالواقع، بل بجوهر الواقع، واكتناه حركة المستقبل في قلب هذا الواقع، فالموهبة وحدها لا تكفي، ولكي تعطي أفضل ما عندها لابد من صقلها وتدريبها، وإلمام صاحبها بالفكر الإنساني، والاندماج بالحياة الاجتماعية والسياسية، ثم الاطلاع على موروث الأدب العربي والآداب الأخرى».
وأشار الأديب الدكتور "علي القيم" معاون وزير الثقافة في مقدمة الكتاب التي أصدرته وزارة الثقافة بعنوان "صياح الجهيم مبدعاً لبراعم أيامنا" موضحاً حضوره الثقافي والأدبي بقوله: «هو الباحث عن قضايا الرواية الحديثة في الأدب الأوروبي، وأفكار الثورة الفرنسية،عاش حياة حافلة بالعطاءات والإنجازات الأدبية والتربوية التي تركت آثارها الإيجابية على أجيال من المثقفين والمربين والطلاب والباحثين عن المعرفة والأدب والحب وروعة الكلمة في الأدب العالمي، كان في كثير من كتاباته النقدية يضع كل شيء موضع التساؤل، ويعتبر الشك طريقاً للمعرفة، وعبرها تكون الحرية، واعتقد أنه في ذلك كان متأثراً بأفكار "أرسطو" ونعم التأثر.
السمة الأساسية التي وسمت أعماله الجمالية، وشغفه الذي لا حدود له للغة العربية، فهو يعتبرها أجمل اللغات، وشعرها أجمل الأشعار».
وأكد ذلك الشاعر "شوقي بغدادي" حينما قال: «كان الجميع يلوذون بالصمت كي يستمعوا إليه، حتى إذا نطق حسم الموقف بأقل الكلام وأوضحه وأكثره تنظيماً وإقناعاً».
يذكر أن الأديب "صياح الجهيم" ولد في قرية "كناكر" عام 1929 نال إجازة في اللغة العربية وشهادة في الأدب الفرنسي، ودبلوم في التربية عام 1953، عمل في التدريس حتى أوائل السبعينيات، ثم عين موجهاً اختصاصياً للغة العربية في محافظتي "درعا والسويداء" حتى تقاعد عام 1991، شارك في وضع مناهج اللغة العربية للمرحلتين الإعدادية والثانوية وأدرج الحداثة الشعرية والمذاهب الأدبية في مناهج التدريس، ترجم منذ عام 1976 وحتى 2000 أربعين عملاً أدبياً وفكرياً منها بعض أعمال "تولستوي" كروايات: "البعث، الحرب والسلم، آنا كارنينا، السيد والخادم، والأعمال المسرحية الكاملة، والأعمال الأدبية المنشورة بعد موته"، كما ترجم لـ"أراغون": "أجراس بال" و"أوريليان"، ولـ"آلان تورين": "نقد الحداثة"، كما ترجم العديد من الأعمال لـ"أندريه ريشار"، و"وبرتولد بريخت"، و"جاك دي سورشيه"، و"جاك بريفير"، و"جان ريكار دو"، و"جان ريشوار"، ولغيرهم، كما ألف في النقد الأدبي الكتب منها "خليل مطران الشاعر"، و"رامبو شاعر الصبا والحداثة"، و"ملامح من حنا مينه".