"مذكرات طبيب شاب"، و"قصص قصيرة" بالاشتراك مع أدباء مترجمين، و"أسرار الشباب والجمال" أعمال قدمتها، وفي الآونة الأخيرة طرقت هموماً اجتماعية ضمن بيئتها المحلية بعمل روائي بعنوان "بلاد المنافي"، بعد أن اتخذت من المتخيل السردي مكمناً في داخلها، وحكايا وقصص أخضعتها إلى العمل التجريبي العلمي، لتكون الطبيبة، والروائية بعد أن درست الأدب العربي في جامعة دمشق عن رغبة ومحبة.
إنها الدكتورة الأديبة "نجاة عبد الصمد" التي التقاها موقع eSwueda ضمن الحوار التالي:
قبل حوالي عقدين رغم العوامل الاجتماعية التي تقف حاجزاً أمام طموح المجتمع المنغلق، استطاعت الدكتورة "نجاة عبد الصمد" السفر إلى "موسكو" لدراسة الطب بعد حصولها على بعثة دراسية، الأهم أنها من طلاب العرب الأوائل الذين حصلوا على درجة الشرف ونالت درجة الدكتوراه في الطب، ثم اجتهدت فقرأت الأدب الروسي وتأثرت به، الأمر الذي دفعها لترجمة بعض الكتب منه
** الطب يعلمنا الواقعية، فالطبيب يتواجه يومياً مع الألم، ألم يحفر في جسد الإنسان المريض يفقده صوابه، ويبث فيه الخوف من صيرورة هذا الألم أو تحوله إلى عجز أو موت!
هنا يتحفز الطب لدراسة أسباب المرض، وكيفية استيطانه للجسد البشري كي يبحث له عن دواء وشفاء، يواجه هذا الواقع بالعلم والعقل، بينما يهمس الأدب لنا بخياله العريض ألا نرضى بالتوقف طويلاً على مشارف الواقع، أي واقع كان، وبقدر ما ينغمس الطب في جوهر المرض ينغمس الأدب في استشفاف العلامات التي تتركها فوضى الحياة في أرواحنا، مع وجود قاسم مشترك بين هذين الحقلين.
الشغف، لا يمكننا اقتحام أحدهما دونه، بشغف عليك كطبيب تعقب أعراض المرض القاتل، وبشغف عليك كأديب أن تستشف بقلمك واقعاً يمكن أن يصبح جميلاً، تماماً كما يأتلق الجسد بعد الشفاء، كلا المجالين معنيّ بتغيير الظرف المريض إلى ظرف سوي معافى، أملاً بالخروج إلى فضاء أكثر رحابة، وإلى شكل من أشكال الشفاء، والعبور إلى هذا الفضاء الجديد ليس تمرداً على القيود والمعرفة بقدر ما هو تحد، أو صرخة ضد الألم وضد العجز، وقدرة على إبصار ما يمكن أن يصير سوياً..
** النص الروائي ليس إلا التقاطاً لومضات الضوء الخفية في بحيرات العتمة الراكدة، إنه التبشير بالأجمل، رسم لعالم متخيّل في الوقت الحاضر، عالم متهندس في تلافيف دماغ الكاتب، أفكار جديدة تخرج من شرنقتها وتنسكب على الورق، حتى تكتسب تكاملها النظري وتستمر، تتغذى من إيمان الكاتب أن هذا العالم القابع في مخيلته هو الصورة الجديدة للعالم الواقعي الذي يريد، وإليه يسعى، وأحاول شرح فلسفة الواقع وقصوره عن تحقيق ما يصبو إليه الإنسان في الوقت الحاضر، لعل تلك الأفكار تغذي المخيلة الفكرية وتخلق لها المناخ المواتي لتصير واقعاً جديداً نضراً قادماً أساساً من الخيال على أساس استبدال الموجودات القاصرة على الأرض، لأننا لن نصل إلى العالم البديل إلا بعد تراكم التخيلات ونضجها، وإيجادها أرضاً حقيقية لم تكن من قبل أكثر من أحلام مخيلة.
** النقد الجاد البناء الذي لا يحابي ولا يساوم يسهم ليس فقط في تطوير نظرية الأنواع الأدبية، وإنما في تطوير ممارسة الكاتب ومستوى أدائه، وكم من نقد أوجد في النص دلالة لم تكن في ذهن الكاتب وبأكثر من فكرة، إيماءة، تصور، رؤيا، وبفضل النقد الجيد تجذرت الفكرة ولاقت نصيبها من الشرح وأغنت فكر المتلقي، والنقد إبداعاً من نوع جديد، كم من نصوص قرأناها وكان لنا فيها رأي متريث، لتأتي أقلام النقاد وتنفخ فيها هواء ساخناً وتظل تنفخ وتنفخ لتفرض وجودها بإكراهٍ على ذوق القراء لأسباب قد تكون شخصية أو مالية أو لأن هذا اللون الهابط دارج الآن ومطلوب.. قد يصل الأمر إلى تشويه الذوق الجماعي، لكن عندما يحسن النقد ترتقي معه الآداب والإبداع وترتقي الذائقة.
** الفرق ضئيل، والتشابه كبير، تماماً كما تصب البحوث الطبية التجريبية كامل طاقتها على رصد المرض وتضييق الخناق عليه، كذلك تصب أفكار الأديب على الواقع من حيث قصوره الحالي عن منح الإنسان كل ما يصبو إليه، يشتغل الخيال والتخييل في البحث عن تحرير الروح من عجزها وأسرها، كلتا الحالتين صعب أن نجد الخط الواضح الذي يتوقف عنده الواقع ويبدأ الخيال، الطب يكسر سلسلة اجتياح المرض للجسد، والإبداع يبدأ برسم شخوصه وأحداثه المتخيلة وينتهي بها ومعها أن تصير كائنات من لحم ودم، وذات زمان ومكان وأحداث، كائنات نحبها أو نرفضها أو نتعلم كذلك منها الكثير.
** قد يكون الإبداع واحداً بالمفهوم الإنساني بالمطلق، لكنه لم يكن ليكون لو لم تكن له بيئة تحضنه، لأن البيئة هي الحاضنة التي لن ينسلخ عنها الأديب حتى لو حاول، والفرق بين مبدع وآخر باستطاعة أحدهما وضع يده على الجرح المدمّى ويحاول رتقه، والثاني كيف يظل تائهاً داخل قوقعة الألم دون أن يجد درب الخروج، لا مكان لمبدع دون بيئته ولا مجال لتجاهل ما يمتزج مع دمائنا الأولى ونكهة ذائقتنا الأولى، ولا معنى للمكان والزمان من دون أشخاص يقفون عنده وقفة المتأمل، ومن مرتعه ينطلقون.
** الترجمة تهدينا وجبة جديدة تمام الجدّة، غنيةً، غريبةً، لذيذة، وعلى طبق جميل أيضاً، لم يكن بمقدورنا الحصول عليه لو لم يكن هديّة، حتى وإن حاولنا، كم أتاحت لنا الترجمات أن نزور البلدان ونتعرّف على ثقافات متعددة ومختلفة، هل كان بإمكاننا معرفتهم لو لم تصلنا أنفاس كتّابهم طازجة ممزوجة بجهد مترجمينا ليحملوا إلينا هذه العوالم الجديدة الرائعة التي لا يشبه أحدها الآخر، عندما تتعرف على التفاصيل الصغيرة في حياة إنسان إفريقي أو أمريكي لاتيني أو آسيوي مغمور يتبرد جرحك، إذ تتقاسم معه فجأة آلامك وأحلامك.. وتكتشف أنك لست وحيداً في معاناتك وقضاياك بل ثمة من تأخذه معمعة الحياة مثلك تماماً في قارّات الدنيا جميعاً، لذلك قدمت الترجمة قسطاً لايستهان به من التوازن لإنساننا الضائع، ويكفي إدراكه أنه ليس وحيداً في رؤاه، وبمقدروه الاستفادة من واقعية الأدب الأوروبي، ومن ذلك التمازج الخفي بين السحر والواقع في نفوس مواطني أمريكا الجنوبية، وصار يعرف روحانيات شرق آسيا، ومعضلات أفريقيا، حقاً الترجمة مكتبة جديدة.
«قبل حوالي عقدين رغم العوامل الاجتماعية التي تقف حاجزاً أمام طموح المجتمع المنغلق، استطاعت الدكتورة "نجاة عبد الصمد" السفر إلى "موسكو" لدراسة الطب بعد حصولها على بعثة دراسية، الأهم أنها من طلاب العرب الأوائل الذين حصلوا على درجة الشرف ونالت درجة الدكتوراه في الطب، ثم اجتهدت فقرأت الأدب الروسي وتأثرت به، الأمر الذي دفعها لترجمة بعض الكتب منه»، والقول هنا للأديب والروائي "وهيب سراي الدين" في شهادته بالدكتورة "عبد الصمد"، حيث يقول: «حين عادت لم يكن الطب هو الطموح فقط، بل حملت معها أفكاراً أدبية إبداعية من "تشيخوف، وتولستوي"، وغيرهم، لتدرس الأدب العربي في جامعة دمشق، وتدخل حقل الأدب بإبداع جديد من نوع آخر يعتمد على المتخيل لا التجريب العلمي فحسب، أي بدأت تنسج لنفسها طريقاً أدبياً في الترجمة متكئة على دراستها في "موسكو" ولغتها العربية، لذلك ينطبق عليها القول "لكل مجتهد نصيب"، إنها بحق مترجمة ناجحة وروائية معاصرة».