عندما سئل الشاعر "عبد القادر الحصني" في سهرة أثناء زيارته الشاعر "معروف مراد" في مدينة "شهبا" بحضور العديد من الشعراء والكتاب يوم الاثنين الواقع في العاشر من شهر تشرين الثاني لعام 2008، عن تجربته في التعليم، رسم صورة بالكلمات لقرية "إم الطيور" التي تقع على بعد 10 كم من "رأس البسيط" في "اللاذقية"، والتي ألف عنها الكثير من القصائد، وقصته كما قال وقعت في بداية التسعينيات.
فوصف: (عندما دخلت تلك القرية، لم يكن هناك شيئأً واحداً عادياً، وكأني في كوكب آخر أو في الجنة، غابة من الأشجار المعمرة يتوسطها بيوت بعيدة عن بعضها.
يا أستاذ حتى لو لم تكتب فإن رويت حكايتنا فكأنك كتبت؟!
يقسمها وادياً إلى قسمين، وناسها من العرب "التركمان" يسود الحب قلوبهم والبساطة في مأكلهم ولباسهم وحياتهم، ولا يعكر صفوهم كل ذلك الضجيج الذي يلف العالم. كنت المعلم الجديد في مدرستهم، وكانوا قد علموا بأني شاعر معروف، وبدؤوا مع الوقت يسألونني ماذا كتبت عن ضيعتهم، وفي كل مرة أقول لهم لم أكتب شيئاً بعد؟ وكانوا يستغربون ذلك، وهم على حق؟! كيف لكل هذا الجمال الرباني ألا يدع مخيلة شاعر للكتابة، ومرت الأيام كلمح البصر، تعرفت فيها على كبيرهم وصغيرهم، وصرت واحداً منهم، أذكر ذلك الرجل الذي أتاني يوماً يشكو من وجع في ركبتيه قائلا لي: «يا أستاذ أذهب كل يوم إلى بستاني الذي يبعد عن القرية 4 كم وأعود بعد أن أعمل فيه، ومنذ فترة أحس أن ركبتاي لا تحملاني»، فسألته عن عمره فقال لي: «ليس كثيرا إنني في السادسة والتسعين عاماً!!» وكلما مر الوقت يسألني صديقي "أبو محمد" هل كتبت شيئاً فأقول له لا، فيقول لي: «يا أستاذ حتى لو لم تكتب فإن رويت حكايتنا فكأنك كتبت؟!».
وكان "أبو محمد" يسكن في الطرف الثاني من القرية التي يفصلها الوادي وكل يوم عطلة عند السادسة صباحاً كان يناديني لشرب القهوة معه، والمسافة بيننا تحتاج إلى45 دقيقة، وأقطعها بساعة كاملة حتى أصل إليه فأجده يقوم بتحميص القهوة حيث يستمر بذلك حوالي النصف ساعة، وبعد ذلك يقوم بطحنها في الآلة التي ورثها عن جده، وتستمر هذه العملية لحوالي النصف الساعة أيضاً، وعندما فرغ من ذلك وضع "ركوة القهوة" على جمر مطفئ، فقمت بأخذ الركوة ووضعتها على جمر ملتهب، فأخذ الركوة وقال لي: «سوف تحرق الماء، وتخرج القهوة سيئة»، وعندما تفوح رائحتها أشعل سيجاري وابدأ باحتسائها ويكون قد مضى على هذه الفترة ما يقارب الساعتين، وعندما هممت للعودة أوقفني وقال لي: «يا أستاذ لماذا دائماً "بصلتك محروقة؟!"».
أذكر جيداً عندما قلت لهم أنني كتبت قصيدة عن قريتهم، تداعوا للاجتماع في الغابة، في مكان مثل الأسطورة، كانوا كلهم متحمسين، وواحد منهم أمسك بغزال صغير وربطه بجذع الشجرة، وبدأت أفكاري تأخذني لذلك الغزال المسكين والرجل الصياد ينظر إلي متوجساً.
قرأت القصيدة ورحت أستمع إلى آرائهم التي لخصها صديقي أبو محمد بقوله: «يا أستاذ إن قصيدتك جميلة ولكن مع الأسف لن يقرأها ويحفظها إلا أنت».
وبعد فترة من الصمت قام صاحب الغزال وأمسكه من الحبل وهو ينظر إلي وأنا قلبي أصبح يرفرف من الخوف على ذلك المخلوق المسكين.
«أتعرف يا أستاذ!؟ (قال الصياد) أعلم أنك خائف أن أذبح الغزال، وكان هدفي في البداية، ولكن كرمى لك سوف أقوم بتحريره ولن أصطاد الغزلان بعد ذلك أبداً»).