يستوقفك اللون كثيراً في لوحات الفنّان ياسر حمّود، وقبل اللون وبعده -وفي محيطه- تفصح لعبة الظل والنور عن «إشراقات»، وهي إطلالات كونيّة ابتدعتها العلاقاتُ اللونيّة الفريدة التي يقترحها حمود على المتلقي لأول مرّة، ومن خلالها يطل المشاهد على ذاته عبر نوافذ خاصّة، هي مساحات للمتعة البصرية.
ربمّا يكون التجريد سيد الموقف في «إشراقات» ياسر حموّد، لكنّه تجريد من نوع خاص يرتكز على الفهم العميق للون والضوء، والتجربة الأكاديميّة المبنيّة على الغنى والتنوع والتكامل. أما الموسيقى والحركة، فقد تجلت بأبدع صورها، في رؤى تشكيليّة أفردها حمّود على مساحات لوحاته ذات الحجم الكبير، والتي أخذت أحياناً شكل الثنائيات أو الثلاثيات أو الرباعيات، لتفرض حضورها القوي على جدران غاليري «آرت هاوس»، شاقولياً أو أفقياً. وحول هذه اللوحات، التف الفنّانون والنقاد وطلاب المتعة في الفن التشكيلي السوري، الذي اجتاز عند ياسر حموّد مرحلة ما بعد الحداثة كما علق البعض.
eSyria واكبت ليلة افتتاح المعرض في السابع من حزيران الجاري، وحملت معها كل التعليقات والانطباعات، لتضعها بين يدي الفنان ياسر حموّد في موعدٍ تمّ الاتفاق عليه مسبقاً بعيداً عن صخب الافتتاح، والطابع الاحتفالي الذي غلب عليه.
ياسر حموّد، أين أنت اليوم من مرحلة محاكاة الطبيعة التي بدأت بها مسيرتك الفنيّة؟
محاكاة الطبيعة حالة لا تنتهي، طالما امتلكتْ بصرَك لتأخذك بعدها لمحاكاة ما وراءها فترى ببصيرتك. فبعد السبر العميق لها والاستغراق في تأملها، تنقلني من محاكاة الأشكال لمحاكاة معانيها الممزوجة بذاتي، تشبه الأشياء لكن ليست هي.
فالأسود الحاضر في معظم أعمالي لا تراه في الطبيعة لأنه غير موجود في مفرداتها، فهو انعكاس لما أفكر وما أسمع وما أحس، وهو بالنسبة لي أيضاً أقل حظاً بتلقي الضوء، ومحروماً من النور.
نبقى في محاكاة الطبيعة، هل الطبيعة هي التي علمتك لعبة الظل والنور؟
الطبيعة تمنحك بتغيرها الدائم أشكالاً للنور والظل لا تنتهي، لأبني في ذاكرتي مخزناً لذاك الضوء، يمتزج بمعرفتك للأشياء لينعكس مجدداً على القماشة، على شكل انفعال أو اتحاد أو هروب إلى الداخل.
ماذا عن التجريد؟ قيل أنك أسست في هذا المعرض لانطلاقةٍ قويّةٍ نحو التجريد، وأنك اجتزت مرحلة ما بعد الحداثة؟
برأيي إن الحداثة، أو ما بعد الحداثة وغيرها من التسميات، عبَّرت عن ردود فِعل الفنانين في العالم على أحداثٍ ارتبطت بهم، أقصد مكانهم وزمانهم، كالحربين العالميتين الأولى والثانية وغيرهما من الأحداث، التي شكلت وقفات زمنية في تاريخهم وتاريخ الشعوب، ولا أحد ينكر تأثيرها في حركة فنوننا نحن أيضاً.
لكني لا أعيش ردود فعلهم بل ردود فعلي، فتجريدي يأخذ منحاً صوفياً بسبب طريقة تفكيري في الأشياء وتحليلها، وأنا مرتبط بطبيعة المنطقة وأحداثها وتاريخها. فلماذا لا تصنف أسماء مدارسنا وأساليبنا على أساس مرحلة ما قبل النكبة وما بعدها؟ ما قبل حرب تشرين وما بعدها؟ لنكن دقيقين في هذه التسميات، ولنجعلها مرتبطة بزماننا ومكاننا.
ما هي أهم المؤثرات التي أنتجت فن ياسر حموّد؟
إن جْلّ ما يحتاجه الفنان أو أي إنسان هو الفهم الصحي أو الصحيح لحريته، وهذا عائد بالدرجة الأولى للتربية، وحرية التفكير هي الدرس الأول. أنا مؤمن بأن الفن موجودٌ في روح الشعب السوري، فأنت تعيش على أرضٍ احتوت كل الأرض، وفي زمانٍ احتوى على كل الأزمنة، وحاورها وصارعها وتعايش معها، وكمّ الجمال الذي تراه في بلادنا يكفي لرفع مستوى إدراكنا الحسي والبصري، بقي أن تتعرف وتعرف، لتستطيع العودة إلى ذاتك.
ماذا عن الموسيقى؟ فالكثير ممن التقيناهم يتأملون في لوحاتك قالوا أنك ترسم موسيقى معيّنة وبشكلٍ واضح. ما هو تعليقك على ذلك؟
بعض الأعمال الموجودة بُنيتْ على التأثر بإيقاع الآخر وأقصد الموسيقى، أعني أنني أستسلم لإيقاع الآخر وأتفاعل معه وأفرغه على قماشتي، وهذا أولاً بقصد التخلي أو محاولة للاستراحة من إيقاعك الذي لا يخلو من الأعباء الزمانية والمكانية والمعرفية؛ وثانياً هو محاولة للتعامل مع البعد الزمني الذي يقودك لاحقاً لأبعاد أخرى. الأبعاد التي أتعامل معها ويتعامل معها أي فنان هي أبعاد قماشته (الطول والعرض).. والبعد الثالث هو صناعة العمق من خلال هذين البعدين لخلق نافذة يمكنك العبور من خلالها إلى ذاكرتك....
الموسيقى محاولة لإضافة البعد الزمني والذي بدوره يجعل النافذة التي أمامك أوسع.
نعود إلى اللون. قلتَ ذات مرّة أن انطلاقتك كانت من اللون الأزرق، وها نحن اليوم نرى علاقاتٍ فريدة بين الألوان، كالاستخدام غير المألوف للأحمر والأسود. من أين تأتي بألوانك؟ هناك من وصفك بأنك ملوّن قبل أي شيء آخر.
الطبيعة المعلم الأول. لقد ولدتُ في مدينة طرطوس، حيث منزل العائلة المطل مباشرةً على البحر.
ومازلت أسمع صوت الأمواج المرتطم في نافذة غرفة جدي وجدتي. تلك النافذة، حيث كان يتوجب أن ترفعني جدتي إلى حيث أستطيع أن أرى ذاك الجار القريب والملاصق لي، وأقصد البحر، وكانت هذه النافذة المرتفعة وفسحة الدار تسمح لي برؤية السماء دائماً. مازلنا نتحدث عن الأزرق الأول، حتى أصبح لون حكايات جدي وجدتي أزرقاً أيضاً.
على العموم، اللون متاح ومسموح دائماً في لوحتي لكن بميزان ومعادل رياضي أحياناً، وبعفوية وموسيقية أحياناً أخرى، مختلف عن قوانين الانطباعيين الأوائل المتعارف عليه، من لونٍ ولونٍ متمم، فأقدم الأحمر مثلاً على كامل مساحة اللوحة لترى الأخضر في ذاكرتك، والبرتقالي لترى أزرقك، وهكذا... وهي تحلق (الألوان أقصد) وتستقر، مرتبطة بالجاذبية وأحياناً متحررة منها.
ولكن أين الشكل في لوحاتك؟ أين التكوين من اللون؟ وأيهما يسبق الآخر؟
الشكل أو التيمة أو الإشارة، موجودة وحاضرة في ذاكرتي، وأنا أحاول إعادة صياغتها على قماشتي كمعنىً وفهم لها لا كصورة أو إعادة تمثيل. والتكوين هو إعادة بناء وعمارة للمشاعر والانفعالات وفلسفتها، فأنا أربع الدائرة وأبحث عن نقطةٍ تختزل الخطوط والأشكال، تَعبُر منها لضميرك ووعيك.
في لوحاتك إطلالات كونيّة. ماذا عن هذه الدلالات؟
عندما تسأل عن عدم الشكل، وتحاور فكرة الموت وأسرار الألوان التي يختزلها اللون الأبيض، فأنت تطرح سؤالاً كونياً. ما أحاول فعله هو أن أرسم أجوبتي.
أخيراً.. ماذا عن التسميات التي أطلقتها على مراحلك الفنيّة الثلاثة -إن صحّ التعبير- التكوين، تجليات، إشراقات؟
التكوين وتجليات... إلى إشراقات.
التكوين: هي الفترة الممتدة من عام 1982 حتى عام 2000، والتي شملت مراحل التأسيس وولادة فكرة اللوحة وتأثرها بالآخر من تاريخ الفن.
تجليات: المرحلة الثانية حسب التقسيم وهي ولادة اللوحة. دعّمتْها ووَطدَّتها علاقتي مع الأستاذ نذير نبعة، لتخلق حواراً مختلف الأبعاد بيني وبينه والطبيعة كمعلم أول، وبيني وبينه كمعلم أول، واسمها كمرحلة ارتبط بالتاريخ فقط، لكن تأثيرها مازال مستمراً، يرسم حلماً جميلاً دائماً.
إشراقات: هو ما تراه الآن، وهي محصلة عمل وبحث منذ عام 2003 حتى الآن، وهي سعادة الاقتراب من الذات.