"التنسيق" حرفة تعلمتها السيدة "منيرة" في الخامسة والأربعين من عمرها فجعلت منها المرأة الأكثر رومانسية، لتعيش من خلالها حياة أخرى، كانت قد تمنتها في أيام الشباب، من خلال منزل ريفي تصنعه بيديها وتحيطه بالأعشاب والأشجار والمياه الرقراقة، حيث لم تتمكن من صناعته في الواقع فصنعته بمهارتها على قطعة قماشية، فعاشت مراحل صناعته مرحلة تلو الأخرى بكل شغف.
هي الحرفية "منيرة زينو" التي التقاها eSyria خلال مشاركتها في مهرجان "سوق المهن اليدوية" المقام في مدينة "طرطوس القديمة" .
بعد صناعة أول لوحة أصبحت كالعاشق المتيم الذي يريد تأمل حبيبته أطول زمن ممكن، فكانت المواد الحافظة مثل "السلر" و "اللكر" هي الحل الأمثل لها
حيث لم تكن هذه المشاركة هي الأولى لها، فمن خلال مشاركتها في هذا المهرجان والمهرجانات الأخرى تؤمن المكان الوحيد والأنسب حسب قولها لتعرض فيه لوحاتها حرصاً منها على قيمتها الفنية وضماناً لعدم تحولها إلى سلعة تجارية، وعنها تقول: «أشارك في كل عام بمهرجان "سوق المهن اليدوية" وكافة المهرجانات الأخرى المقامة في بقية المحافظات، ولأتجنب وضع لوحاتي في المحلات التجارية كسلعة تجارية لا قيمة لها، فالمهرجانات تبقى ذات طابع خاص وأذواق خاصة مهتمة بالفن واللوحات الفنية» .
وعن بداياتها الفنية تقول: «أنا محبة للطبيعة بشكل كبير ومراقبة لها في كافة ظروفها وطقوسها، ومعجبة بما تملكه من خامات ومواد أولية، ولكثرة مراقبتي لها والتمعن بخاماتها فكرت بالاستفادة منها وصناعة لوحات فنية منسوخة منها مستخدمة تواليفها الطبيعية بكل حرفية وعشق».
وتتابع:«كانت البداية في سن الخامسة والأربعين عندما جمعت الأعواد الصغيرة والكبيرة وبقايا الأوراق المتساقطة المختلفة الأشكال والألوان والأحجام دون معرفة ما يمكنني صناعته بها، حيث قمت بتنسيقها وترتيبها حسب ألوانها وأحجامها على قطعة قماشية مشكلة ما يشبه الغابة وبجوارها نهر على ضفافه منزل صغير، وبعد الانتهاء منها فكرت بالأخطاء التي تحتويها ووجدتها كثيرة فعملت على تصليحها وتلافيها في اللوحة التالية» .
لم يكن هدفها تصويب الأخطاء فقط، بل فكرت كيف يمكن أن تطيل عمرها وتحافظ عليها، وخاصة أنها بقايا طبيعية من المفترض أن لها عمر محدد، وهنا تقول: «بعد صناعة أول لوحة أصبحت كالعاشق المتيم الذي يريد تأمل حبيبته أطول زمن ممكن، فكانت المواد الحافظة مثل "السلر" و "اللكر" هي الحل الأمثل لها».
ولكل لوحة طريقتها الخاصة في العمل والتنسيق، وعن طريقة صناعة لوحة ما، تقول: «أبدأ بجمع الأعواد والأوراق وقشور بذور الثمار المتعددة الأحجام والألوان، مثل أعواد نباتات "المكنس" الرفيعة، وبذور "الدراق" و "المشمش" و "الفستق الحلبي" وغيرها من البذور، وبكميات كبيرة، ثم أتركها في الشمس عدة شهور لتعالجها طبيعياً كمرحلة أولى، ثم أرتبها على قطعة قماش كبيرة وفقاً للشكل والفكرة التي أراها وأتصورها، حيث أرتب الأعواد الكبيرة أولاً لتعطي هيئة نبات قريب، ثم أقص الأوراق ذات اللون الغامق وأثبتها على القطعة القماشية باللاصق القوي لتشكل المنزل الريفي، وألصق الأعواد الرفيعة كلاً بدوره ومكانه خلف المنزل والأعواد الكبيرة لتعطي هيئة النباتات البعيدة».
«وفي هذه الأثناء ريثما يجف اللاصق أقوم بتجهيز الإطار الخارجي المكون من نوعي خشب طبيعي، الأول خشب السويد الأبيض، والثاني خشب السنديان الأحمر، ليتم دهنه بـ"السلر" و "اللكر"، وبعد جفاف اللاصق تبدأ عملية الدهان الكاملة للوحة بـ"السلر" و "اللكر" لحمايتها من العوامل الطبيعية والصناعية التي تتعرض لها، وذلك وفق معايير خاصة وكميات محددة، ثم أرتب قشور البذور على شكل زهرة أو أي فكرة أراها مناسبة للمنظر واللوحة بشكل عام، ثم أدهنها أيضاً لحمايتها من العوامل الخارجية» .
أما عن أهمية هذه الحرفة بالنسبة لها وما تعنيه وتمثله في حياتها، تقول: «الهواية هي نعمة ومنحة من عند الله لا يمكن لأحد الحصول عليها عمداً، وهذا ما يبرر تعلمي حرفة "التنسيق" في خريف العمر، وخاصة بعد استقلال أولادي في منازلهم وبقائي وحيدة في منزلي، ومراقبتي وبشكل مستمر لممتلكات الطبيعة الغنية، حيث انطلقت مخيلتي وتحررت يداي وبدأتا العمل والتنسيق لتهزم هذه الحرفة وحدتي وتصبح ونيس وأنيسي، ومالكة لجميع لحظات يومي ونومي، حتى أنني أستيقظ في كثير من الأحيان في منتصف الليل لأبدأ بفكرة لوحة تخيلتها في منامي، خوفاً من تلاشيها فيما بعد، وفقدان لحظة النشوة بعد انتهاء العمل، ونظرات الإعجاب التي أراها في عيون المهتمين والمشاهدين لها» .
وفي لقاء آخر مع الحرفية "نائير سليمان" أكدت أن اللمسة الفنية التي تظهر من خلال أعمال الحرفية "منيرة زينو" هي لمسة إبداعية معبرة عن مشاعر وأحاسيس عجز اللسان عن النطق بها وإسماعها للآخرين، فصورتها لهم بيديها الماهرتين .