إن عشقه لتأملات الطبيعة منذ الصغر، والمفردات والتفاصيل المثيرة بصرياً ووجدانياً، حوّل مخزونه الفكري والمكاني إلى فلسفة تمتعت بمفاهيم ثقافية راقية، فالفنان "علي مقوص" يبحث بشكل دائم عن مفهوم حضاري للعلاقة بين الزمان والمكان، وبينه وبين هذه الفلسفة الراقية، لأن المكان ليس البيت الذي عاش فيه أو الأرض التي قام عليها، وإنما هي العلاقة بالوجود بشكل عام، فهو يعمل بما له علاقة بدافع وجوديّ دون النظر إلى علاقته بالأبعاد الأخرى، وكل ما يحصل فيما بعد هو تحصيل حاصل.
حيث إنه وخلال حديث موقع eSyria معه ضمن فعاليات مهرجان "السنديان" الذي أقيم في قرية "الملاجة" وكان أحد المشاركين في ملتقاه التشكيلي، أوضح أنه يعيش حياته الفنية من خلال حالة توحد مع أفكاره التي هي مخزونه الوجداني وتصوراته وعالمه الخيالي، الذي أحب فيه رسم "الدونكيشوت" لأنه إحدى الظواهر المستمرة في العالم.
"علي مقوص" عرفناه سابقاً بتجربته التي يرسم فيها تكوين الطبيعة مع الأشخاص، حيث يملك خبرة وتقنية عالية لا يستهان بها في هذا المجال، أوصلته إلى حالة القداسة والروحانية العالية من خلال تكوين هذه الطبيعة في مخزونه الفكري الذي يتمتع به، فمعرفتي به من حوالي خمس سنوات، تمكنت خلالها من إثبات هذه المعرفة، وفي كل مرة أراه فيها أرى التجدد والجمال في أعماله، حيث لا يمكن أن يعطي تكنيكاً واحداً لأعماله بشكل دائم وإنما تكنيكه في تجدد دائم، فهو يرسم ما يشعر به دائماً، ويرسم أعماله وفق تسلسل جيد، فقد وجدت في أعماله أعمالا مغايرة عن أعمال اقرانه من الفنانين السوريين الملتزمين مع بيئتهم
* من "علي مقوص" الفنان؟
** هو الإنسان الطموح الذي يرغب في الرسم بشكل دائم، والبحث عن علاقته الوجودية بالزمان والمكان، وطرح تصوراته وأفكاره الخاصة، ليستطيع التواصل مع الآخرين بشكل له حساسيته ونقاؤه ونبله الحضاري.
** الفنان دوماً يشعر بأنه في بحث دائم لتحقيق ما يطمح إلى إنجازه، حيث إن البحث هو إنجاز، لأنه يسعفني بحلول لبعض المشاكل البصرية، وهو سعي دائم لإنتاج أفكار جديدة وحلول جديدة لها، ويساعد على إنجاز عمل فني استثنائي أحقق من خلاله طروحات جيدة وخصوصية متأصلة فيه، كما حدث معي هنا في "الملاجة" التي منحتني قيمة استثنائية أشعر بحضورها في لوحاتي.
** إن التفاصيل البصرية والوجدانية التي أجدها في مخزوني الفكري المعرفي وأنا في حالة بحثي، أستذكرها من طفولتي وتأملي فيها للطبيعة التي أغرمت بها منذ الصغر لما ملكته من مفردات وتفاصيل مثيرة بصرياً ووجدانياً.
** بعد درسي في كلية الفنون الجميلة بـ"دمشق" عام "1978" والتي أعتبرها تجربة انتقلت من خلالها إلى مرحلة أخرى، وضع فيها قدمي على الطريق الصحيح من خلال تفاعلي مع المدرسين الذين هم خبرات لا يستهان بها، أمثال "فاتح المدرس" و"نذير نبعه" و"محمود حماد" وغيرهم، حيث عشت هذه التجربة التي ساعدتني على فهم التشكيل، وفهم العمل الفني وبلورت لدي مفهوم الفن والجمال ومفهوم بناء اللوحة.
** في السبعينيات وبعد التخرج عملت بالرسم في الملحق الثقافي لجريدة "الثورة"، وعند رؤيتي طبيعة الرسم فيها بالحبر الأسود أثار شجوني وتعلقت به، حيث كنت على علاقة حميمية مع الحبر الأسود، واستمرت حتى الآن، وأصبح لها عمقها ومضمونها الوجداني المهم بالنسبة لي.
** إن طبيعة علاقتي بالطبيعة ونمط البيئة الريفية، من فلاحين وأمطار وحقول وأزهار، وبقطرات الندى والرياح اللطيفة، صقلتها وساهمت في توضيح مفاهيمها التي كانت مشوشة لدى رحلتي في بداية الثمانينيات خارج سورية، حيث عشت تجارب إبداعية خاصة وقمت بدراسات فنية كثيرة.
** أنا أرسم طبيعة من الذاكرة الطفولية الغنية والممتعة، التي لعبت دورا كبيرا في خصوصيتي بالعمل الفني، وكانت أحد المؤثرات القوية في مسار تفكيري التشكيلي الآن، فهي العمق الوجداني لتجربتي، فأثرت ولم تكن مسيطرة، ولكنها بقيت هاجساً للبحث المستمر لهندسة الأفكار البسيطة وبلورتها، وهذا ما سميته هاجس الانتماء إلى رحم الطبيعة والقروية البسيطة التي عشت بها، حيث إنها بقيت فطرية عادية حتى طورها وأغناها العمل الفني الذي كان هدفي.
** ربما علاقتي بالحبر الأسود وعلاقته مع الضوء دفعني إلى الاهتمام بالبعد غير المادي للعمل، أي البعد الزمني والنفسي للعمل، وهو البعد الرابع، وأهملت الأبعاد الثلاثة غير المهمة أمام استخلاص التحليلات الخاصة التي لها علاقة بنضج العمل الفني والأفكار التي من الممكن أن أرتقي بها إلى مستوى ثقافة العصر.
** البعد الزمني هو علاقة إحساس الفنان بالانتماء، وإحساسي بالانتماء لجغرافية الطفولة والسيكولوجية التي كونتني، ومدى علاقتي بالطبيعة والضوء والمادة والمناخ، ونمط علاقتي مع الزمن، فالماضي والمستقبل وحركة المادة بالفراغ، يُكونان الزمن وعلاقته مع المادة، مشكلان معادلة اللوحة، وهنا فإن كثافة علاقتي وإحساسي بالانتماء دفعتني إلى البحث عن خصوصية هذا الانتماء الذي يتجسد بالحس الغرافيكي لسطح اللوحة أو سطح ما قبل اللوحة الذي سيحمل المؤثرات الخاصة التي تربط ما بين اللوحة والمعادلة، فكلما تقدم الفنان في معرفة وحل جدلية هذه العلاقة يكون قد استطاع التوصل إلى حل مشاكل بصرية في اللوحة تؤدي إلى ارتقاء اللوحة.
** الدراسة الأكاديمية هي جزء من تجربتي التي لا يمكن أن أقفز فوقها، وهي تجربة مهمة جداً للمراهق الفني الذي دخل في تجربة ولا يعلم كيف يخرج منها، فالأكاديمية قد تختصر الزمن أو تساعد الفنان على فهم الحالة البصرية أو التكوين البصري، إضافة إلى فهم الآخرين وكيف يمكن أن يُنشئ الفنان حوارا بصريا مع الآخرين، وكيف يضع معايير خاصة للعمل الفني ويملأ الفراغات الموجودة في داخله التي ترتبط بالناحية الفلسفية أو التقنية أو الثقافية التي ترتبط بالفن، فهي مرجع يستعين به الفنان المراهق خلال أربع سنوات ثم يغلقه عندما يشعر بأنه من الممكن أن يقف على قديميه.
المتلقي يحتاج إلى مقومات المتلقي دائماً، فلا يمكن أن يكون هذا المتلقي مفتقرا إلى المعرفة التشكيلية، وليس لديه تجارب بصرية أو تجربة مع العمل الفني، لذلك لا يمكن أن نطلب منه التواصل مع العمل الفني، إذاً المسألة هي مسألة تجربة يحتاجها المتلقي لكي يتواصل مع العمل والفنان على حد سواء، وإلا فإنه سيحمل العمل الفني مشكلة ما.
** الانتماء إلى المدارس الفنية مهمة للمؤرخين والنقاد فقط، ولكنها ليست مهمة للفنان، حيث يهتم بمسار بحثه وكثافة الأفكار التشكيلية التي يعمل عليها وبلورتها وتقديم طروحات بصرية مؤثرة وذات أهمية، فمشروعه مشروع بصري تشكيلي معرفي ثقافي، والمهم البحث عن أفكار جديدة وتوليفة بصرية يستطيع المتلقي التعامل معها.
** أعطي أهمية كبيرة بعملي للبعد الإنساني الحميمي للعمل وثقافة العمل والارتقاء لبناء الثقافة المعرفية والوجدانية وتأصيل الإحساس بالانتماء، فكل صخرة وكل طائر وكل غيمة أحظى بعلاقة معها أشعر بها، لأتمكن من تشكل جغرافية الحالة والبعد المكاني لها، حيث إن المكان تجربة تلخصه طبيعة علاقتك به.
"وفي لقاء آخر مع الفنان العالمي السوري "بهرم حاجو" حدثنا عن تقنية العمل لدى الفنان "علي مقوص"، فقال: «"علي مقوص" عرفناه سابقاً بتجربته التي يرسم فيها تكوين الطبيعة مع الأشخاص، حيث يملك خبرة وتقنية عالية لا يستهان بها في هذا المجال، أوصلته إلى حالة القداسة والروحانية العالية من خلال تكوين هذه الطبيعة في مخزونه الفكري الذي يتمتع به، فمعرفتي به من حوالي خمس سنوات، تمكنت خلالها من إثبات هذه المعرفة، وفي كل مرة أراه فيها أرى التجدد والجمال في أعماله، حيث لا يمكن أن يعطي تكنيكاً واحداً لأعماله بشكل دائم وإنما تكنيكه في تجدد دائم، فهو يرسم ما يشعر به دائماً، ويرسم أعماله وفق تسلسل جيد، فقد وجدت في أعماله أعمالا مغايرة عن أعمال اقرانه من الفنانين السوريين الملتزمين مع بيئتهم».
بقي أن نذكر أن الفنان "علي مقوص" من مواليد "اللاذقية" عام "1955" درس وترعرع في ربوعها الطبيعية الريفية الغنية، وانتقل إلى "دمشق" ليتابع دراسته الجامعية فيها، حيث تخرج في كلية الفنون الجميلة عام "1978"، وأقام الكثير من المعارض الفنية داخل وخارج سورية، إضافة إلى العديد من الملتقيات التشكيلية.