كان طالباً متميزاً وحقق تفوقاً في دراسته الثانوية، أحب الرياضيات والعلوم الرياضية ولكن نزولاً عند رغبة الأهل دخل كلية الطب البشري وتركها بعد عام واحد مغادراً أرض الوطن إلى "الاتحاد السوفييتي" باحثاً عن طموحه العلمي ليعود بعد ستة سنوات حاملاً شهادة الماجستير في هندسة تكنولوجيا الصناعات الغذائية وبدرجة ممتازة.
السيد "جرجس قطريب" من أهالي قرية "الروضة" في مدينة "بانياس" تحدث خلال لقائنا به بتاريخ"20/1/2010" عن مراحل الدراسة فيقول :«ولدت لعائلة متوسطة الحال تهتم بالزراعة بشكل أساسي، وقد اقتديت بوالدي مثلي الأعلى في جميع نواحي الحياة والعمل والجد والتقيد بالنظام والسعي لنحو الأفضل».
ولدت لعائلة متوسطة الحال تهتم بالزراعة بشكل أساسي، وقد اقتديت بوالدي مثلي الأعلى في جميع نواحي الحياة والعمل والجد والتقيد بالنظام والسعي لنحو الأفضل
ويضيف: «تلقيت تعليمي في مدرسة "الروضة" الابتدائية ثم ثانوية "البنين" في "طرطوس" وحصلت على الثانوية العلمية عام "1965" ومنها إلى جامعة "دمشق" ثم سافرت بموجب بعثة دراسية الى "الاتحاد السوفيتي" وحصلت على شهادة الماجستير في هندسة تكنولوجيا الصناعات الغذائية، ثم عدت الى "سورية" واستلمت خلال مسيرتي الوظيفية إدارة أربع شركات صناعية في"سورية" وكنت دوماً أضع في عين الاعتبار نظرة أولادي لي في المستقبل إن لم أنجح في الإدارة ولم أستطع تحقيق شيء، وهذا ما دفعني للعمل بكل طاقة».
قبل العودة الى أرض الوطن قدم بحوثاً عدة أثبتت جدارته العلمية وعنها يقول: «أثناء الدراسة في الاتحاد السوفييتي قدمت بحثاً علمياً عن كيفية العمل على زيادة نسبة نقاء مادة "الكوانين" كأداة غير قابلة للأكسدة و البالغة "سبعة وسبعون" بالمئة والموجودة في حراشف السمك وتستخدم في طلاء الطائرات لتسهيل انزلاقها في الهواء وتخفف من الاحتكاك معه بنسبة سبع درجات، لتصبح صالحة للاستخدام البشري ضمن العمليات التجميلية للبشرة وتم تسجيل البحث في الجامعة للاستفادة منه في الحياة العملية.
والبحث الثاني كان موضوع رسالة الماجستير حيث قمت بتصميم معمل لتعليب المواد الغذائية في مدينة على البحر الأسود بعد دراسة الجدوى الاقتصادية والاجتماعية والعملية على المدينة والدولة، وقد عرض التصميم على لجنة مختصة وتمت المصادقة عليه وتم تنفيذه ونتيجةً لذلك حصلت على درجة الامتياز في الماجستير».
في عام 1972 عاد إلى أرض الوطن حاملاً معه الفكر والعلم والإبداع، وخيِّر في العمل بين وزارتي التعليم العالي والصناعة فاختار الأخيرة لحبه للعمل والإنتاج حسب قوله، ويشرح مراحل عمله في هذا القطاع قائلاً: «بعد العودة عينت في معمل كونسروة "جبلة" و كان عبارة عن بناء فارغ سعيت جاهداً لاستلام آلاته وتركيبها حيث قمت باستلامها على مسؤوليتي الشخصية بشرط أن تتم عملية التركيب خلال ستة أشهر لأنني رفضت فكرة قيام الخبراء الأجانب بتركيبه حيث أكون متدرباً معهم وأنا قادر على تركيب آلاته لأنه عملي واختصاصي.
وهذا ما دفعني لتأمين حوالي سبعين عاملا للمعمل خلال أربعة أيام للبدء بتركيب الآليات وذلك بعد الاطلاع على شروط التوظيف ومساعدة الجهات المختصة والمجتمع المحلي في هذا المجال، وقد تمكنت خلال ثلاثة أشهر من تركيب حوالي ثمانين بالمئة من آلات المعمل، وبتاريخ 16/6/1973 تم تدشين المعمل في الوقت المحدد وبعدها التحقت بالخدمة الإلزامية حتى تسريحي في عام "19/6/1975"».
وخلال هذه الفترة تم تكليف السيد "قطريب" بحل عدة مشاكل في معامل أخرى تابعة للمؤسسة العامة للصناعات الغذائية بتكليف من وزارة الصناعة وأيضاً تم تكليفه كنائب رئيس لجنة قطرية لدراسة معدلات الأداء والمعايير الإنتاجية في الشركات التابعة للمؤسسة لوضع تشريع صرف الحوافز الإنتاجية الذي مازال يطبق حتى الآن.
ويتابع حديثه موضحاً ما قدمه من فكر وطاقة لتحسين إنتاج شركة الساحل للصناعات الغذائية التي عاد للعمل بها بعد أداء الخدمة الإلزامية حيث قال: «بعد انتهاء خدمة العلم التحقت بالعمل في شركة الساحل للصناعات الغذائية بصفة نائب المدير للشؤون الفنية والإدارية، وعملت بالتكامل مع المدير لتطوير المعمل الذي كان ينتج رب البندورة فقط وتم دراسة وتصميم و تركيب خطوط جديدة لينتج المعمل أيضاً البازلاء والمربى والفول المدمس وخط خاص لإنتاج الشراب إضافة الى توسيع المستودعات لتستوعب الإنتاج وتركيب محطة تحليه للمياه وتضاعف الإنتاج ثلاثة أضعاف وأصبح المعمل من الشركات الرابحة والرائدة على مستوى القطر».
لظروفه العائلية وسعياً لتحقيق مصدر رزق آخر يساعده في تأمين متطلبات الحياة عاد الى "طرطوس"، وهذا ما أوضحه لنا بالقول: «في عام "1985" انتقلت إلى معمل الفول السوداني في "طرطوس" لتغطية التفاوت بين متطلبات الحياة اليومية والراتب الذي أحصل عليه وذلك من خلال عملي في أرضي الزراعية التي ورثتها عن أهلي».
وعن هذه المرحلة يقول: «كان عمل المعمل يقتصر على تقشير وتنقية الفستق وبيعه فقط وطرحت فكرة تصنيع مادة الطحينة من بقايا الفستق المكسر الناتج عن عملية التقشير، والذي كان يباع بأسعار زهيدة جداً وصممت خط إنتاج على هذا الأساس بعد جولة قمت بها على جميع المعامل التي تحتوي ورش صناعية لتصميم الآلات ومنها معمل اسمنت "حلب" وتمت صناعة الآلات وتركيبها وتدشين الخط ليباشر العمل ويحقق نوعية إنتاج ممتازة، ونتيجة لذلك عينت مستشاراً في وزارة الصناعة لبرمجة صيانة الشركات التابعة للوزارة».
وفي العام "1989" عين مديراً لمعمل كونسروة "ادلب" ومنه إلى كونسروة "الحسكة" وهنا يقول: «عملت خلال شهر واحد من تسلمي إدارة المعمل على إعادة هيكليته بالكامل و صيانة كل آلاته ثم نقلت إلى معمل كونسروة "الحسكة"، الذي كان يعاني من خسارات متتالية وبدأت بصيانة كاملة للمعمل بالتعاون مع الكادر العمالي والإداري فيه.
وقمت بدراسة آلية جديدة لتسويق الإنتاج حيث تعاقدت في العام "1991" مع حقول النفط والمؤسسة الاستهلاكية في "الرقة " وسجن "عدرا" ومع شركة الخضار والفواكه في "طرطوس"لاستجرار البندورة ومع اتحاد فلاحي "درعا" لتوريد البازلاء و البندورة وبعد هذه الخطة التسويقية والإنتاجية حقق المعمل في أول عام له ربحاً قدره ثلاثة عشرة مليون ليرة سورية وتم تكريمي بطل إنتاج على مستوى سورية من قبل رئاسة مجلس الوزراء وتسميتي كعضو في مؤتمر الإبداع الوطني»
كما قمت بإحداث خط جديد لإنتاج مادة الطحينة من السمسم وأصبح المواد تعلب بالعبوات الزجاجية بدل العبوات المعدنية وهذا يحدث لأول مرة وعممت هذه التجربة من قبل وزارة الصناعة على جميع معامل الكونسروة».
بعد طول غياب وغربة عن أسرته التي لم يكن يراها إلا أثناء الذهاب الى محافظة "دمشق" والعودة منها لحضور الاجتماعات قرر العودة الى محافظة "طرطوس" فعين مديراً لمعمل مياه "الدريكيش".
وفي معمل مياه الدريكيش تكللت رحلة العمر بالنجاح أيضاً يوضح ذلك قائلاً:«في عام "1993" عينت مديراً لمعمل مياه "الدريكيش" الذي كان يواجه مشكلة في السدادة الخاصة بالعبوات المستوردة من "فرنسا" إضافة الى وجود عشرات الأطنان من النفايات في الساحة الخارجية للمعمل الذي مضى على إنشائه في وقتها عشرين عاماً وحصلت في أثنائها على حافز من السيد الوزير مفاده أن النجاح في هذا المعمل له ثمنه الخاص على مستوى الوزارة والدولة».
وعن هذه المرحلة يحدثنا المهندس "يوسف بدور" مدير معمل مياه "الدريكيش" الحالي الذي واكب فترة إدارة السيد "قطريب" :«لقد كان المهندس"جرجس" من المدراء الذين لا يمكن نسيانهم لبصمتهم التي يضعونها في المكان الذي يعملون به حيث كان أول من يدخل الى المعمل ليكون مواكباً لعمل كل آلة وكل موظف، حيث بدأ العمل بصيانة عامة لجميع آلات المعمل لتقدم كامل طاقتها الإنتاجية».
خطة إنتاجية عمل على تحقيها وتنفيذها بفكرة بسيطة يوضحها لنا السيد "بدور" قالاً: «لقد أنتج المعمل خلال أول ثلاثة أشهر "250" ألف جعبة ماء وكانت نصف الخطة السنوية المقررة وضعف إنتاجه في أي عام سابق، وكان هذا حافزاً لمضاعفة الجهد لدى العمال حيث عمل على توسيع الخزانات التي تستقبل المياه من النبع و زيادة ساعات الضخ وذلك في أيام العطل وبعد الدوام الرسمي وهذا دون زيادة نسبة الضخ على مدار الساعة الواحدة ً للحفاظ على نوعية المياه المعدنية في الحوض البازلتي وكل هذا كان سبباً لتحقيق الخطة السنوية بزيادة وقدرها "250" ألف جعبة خلال العام الأول وأرباح قدرت بحوالى "24800000" ليرة سورية بالإضافة الى صرف الحوافز الإنتاجية للعمال».
استمر عمله في "الدريكيش" عشرة أعوام قام خلالها بإجراءات عدة يذكر منها المهندس "يوسف": «تعاقد مع معمل خاص لإنتاج السدادة التي كانت بمثابة مشكلة كبيرة تؤثر على نوعية المياه في العبوات وكانت السدادة مستوردة فأصبحت تصنع محلياً وحينها حصل على مكافأة وكرم من قبل رئاسة مجلس الوزراء لتنفيذه الخطة بمقدار "120" بالمئة وأصبح المعمل من الشركات الأربعة الرابحة في القطر وهي معمل عرق "السويداء" ومعمل مياه "بقين" وشركة زيوت "حماة"».
ويضيف: «لقد عمل الأستاذ "قطريب" على تأمين وسائل نقل تقلّ الموظفين من منازلهم الى المعمل وبالعكس عن طريق التعاقد مع خمسة عشر ميكروباصات خاص، بالإضافة الى تحقيق مكاسب عمالية منها الطبابة الكاملة للعاملين والحوافز الإنتاجية».
وفي ختام مسيرة العطاء والعمل قرر التنحي وخلق جو من السكينة لجسده وروحه ولكنه لم يفلح وعن ذلك يحدثنا: «في عام "2001" قدمت استقالتي لأستقرّ بجانب أسرتي وطبيعتي التي كنت بأمس الحاجة لها، وكان قد بقي لدي ثلاث سنوات لأصل إلى التقاعد، ولكنها رفضت ليتم تعييني مستشاراً في وزارة الصناعة حوالي العام والنصف حتى عام "2003" ».
لم يكن يعلم يوماً أنه إذا جلس في المنزل بعد أربعين عاماً من العمل والعطاء سيشعر بالقوة التي ما تزال كامنة داخله و تحتاج لفسحة للبناء والعمل والإبداع وهذا ما أراد السيد "جرجس" قوله ليختم لقائنا..