الماء.. أصل الحياة، وقصة جميع الحضارات تقوم على التحدي المتواصل بين الإنسان والطبيعة من أجل البقاء، وقد عرفت "أرواد" تحدياً أكبر من أجل الماء، لكونها خالية من الينابيع وفي وسط البحر من جميع الجهات.
وبما أنّ مياه الأمطار التي كان يتم جمعها لم تكن تكفي حاجة السكان، فقد تغلب الأرواديون على هذه المشكلة باكتشافهم لينابيع من المياه العذبة في قاع البحر، وبقي عليهم إخراجها وإيصالها إلى الجزيرة.
ابتكروا هذه الطريقة لأنّ جلب المياه من الساحل أمام "أرواد" لم يكن دائماً أمراً ميسوراً، فكانت هناك أحياناً بحارٌ هائجة أو عدوّ متربص يمنع وصول السفن التي تريد الماء
وكما قيل "إنّ الحاجة هي أم الاختراع"، فقد كانت حاجة سكان "أرواد" للمياه العذبة هي أم "الأقماع المقلوبة"، التي ابتكروها لإخراج مياه الينابيع العذبة من قاع البحر إلى يابستهم.
eSyria زار الجزيرة في 13/4/2009، وهناك تعرف على هذه الأداة المبتكرة منذ عشرات السنين، والتي كان لها شأن في تغيير مجرى الحياة على الجزيرة.
محطتنا الأولى كانت متحف الجزيرة الذي تعرفنا فيه على هذه الأقماع، وشرح لنا المهندس "رئيف حسن" عنها قائلاً: «القمع الحالي المعروض في المتحف هو فخاري وكان أكبر حجماً، لكن عوامل الحتّ أدت إلى تآكل بعض حوافه، فهو أصغر حجماً من المعتاد ومن الفخار، وهذا يدلّ على قلة استخدامه، تم العثور عليه من قبل الصيادين حوالي سنة 1980.
أما القمع الرصاصي الذي قدمه الغواص "صلاح بهلوان" كهدية للمتحف، فهو محفوظ في المستودع حالياً لتأمين مكان مناسب للعرض بعد عمليات الترميم التي ستنتهي خلال 5 أشهر كحد أقصى».
بحثنا عن الغواص "صلاح بهلوان"، والتقينا به في مقر عمله لإنشاء السفن الصغيرة، وكأنّه لم يستغرب زيارتنا له، أو كانت متوقعة، فبدأ حديثه معرّفاً بإحدى أهمّ تقنيات القرون الماضية؛ بالنسبة لـ"أرواد" على أقلّ تقدير، فقال: «القمع المقلوب هو عبارة عن وعاء رصاصي يزن حوالي 40 كغ، قطره السفلي حوالي 70 سم، ارتفاعه حوالي 65 سم، فتحته العلوية هي لتسرب مياه الشرب وقطرها حوالي 17 سم، وثلاثة آذان لتثبيته في الأرض، قمت باستخراجه منذ حوالي 25 عاماً».
وتابع حديثه عن قصةٍ دامت 15 عاماً توّجت بعثوره على هذا القمع، فقال: «درسنا في التاريخ القديم ومرّ معنا حضارات ومن جملتها "الحضارة الفينيقية" التي سكنت الساحل السوري، وبحسب هذه الدراسات فإن الفينيقيين شربوا المياه العذبة من عمق البحر بواسطة "الأقماع المقلوبة"، وفي سنة 1958 وفي الستينيات والسبعينيات أتت بعثات أجنبية وبحثت عنه ولم تجده».
وأضاف: «حاول بعضها أن يستعين بي لأعمل معهم بأجرٍ يوميّ أو شهريّ كوني غطّاساً وملمّاً بقاع البحر، وفي الوقت نفسه أملك ثقافة عامة واسعة، فلم أوافق وفكرت بالبحث عنه بنفسي.
جميع الكتب التاريخية التي حددت مكان "الأقماع المقلوبة" لم تعط مكاناً معيناً، ولكوني بحاراً وغطاساً ومنشئ سفن كانت علاقتي حميمة بالبحر، فتوجهت إلى أفكاري بالسؤال والجواب في نفسي: إذاً أين توجد "الأقماع المقلوبة"؟! فبحثت عنها على مدى 15 عاماً أتقصّى كلّ شيءٍ أسمعه، إضافةً إلى معلوماتي الخاصة وما يجب أن يكون، حتى وجدته وهو في حالة سليمة، وإذا دعا الأمر ربما نجد قمعاً آخر».
وسألنا السيد "صلاح بهلوان" كيف استعمل هذا القمع المقلوب فأجاب: «لم يكن لأحد أن تحدث عن كيفية استعماله، ولكن أعتقد أن الفينيقيين صنعوا هذا "القمع المقلوب" وغاصوا به إلى قاع البحر وثبتوه فوق فوهة الينبوع، وغاصوا به حوالي 25 سم في القاع لمنع تسرب المياه المالحة من حوله، وجعلوا له ثلاثة آذان تسمح له بالتثبيت في قاع البحر بواسطة الحبال والمراسي المصنوعة من الحديد أو الحجر، ليكون مثبتاً تثبيتاً جيداً لا حراك فيه».
وتابع عن كيفية استخراج المياه: «وهنا تمّت عملية حصر المياه العذبة ضمن القمع، ثمّ قاموا بعملية ثانية هي وضع أنبوب من القمع المقلوب إلى سطح البحر، وهذا الأنبوب في اعتقادي قد صنع من جلد الحيوان.
على سطح البحر ثبتوا هذا الأنبوب على قطعة خشبية من جذع الشجر الكبير، وقاموا بعملية ثالثة وهي تثبيت هذا الجذع على سطح الماء تثبيتاً جيداً ومتيناً حتى لا يخلع القمع المقلوب من مكانه.
ثبتوا هذا الجذع بـ 4 مراسي في الاتجاهات الأربعة، وعندما تم التثبيت قاموا بعملية نقل الماء وهي العملية الرابعة، حيث تأتي السفن من الجزيرة إلى هذه العائمة، فيأخذوا طرف الأنبوب المثبت من وسطه فيضعونه في السفينة حتى تمتلئ وتعود إلى "أرواد"».
قد يكون جلب المياه من الساحل أمراً بديهياً، ولكن من عاش في الجزيرة وعمل طوال حياته في البحر يمكن أن يجد تفسيراً أكثر دقة، وهنا أوضح الغواص "صلاح": «ابتكروا هذه الطريقة لأنّ جلب المياه من الساحل أمام "أرواد" لم يكن دائماً أمراً ميسوراً، فكانت هناك أحياناً بحارٌ هائجة أو عدوّ متربص يمنع وصول السفن التي تريد الماء».
وعن سؤالنا هل يمكن أن تصل الأنابيب إلى "أرواد" أجاب: «أستبعدُ القول بأن المياه العذبة قد وصلت إلى "أرواد" بواسطة الأنابيب الفخارية، كما يظن البعض، وقد غصت مئات المرات لأجد أثراً لذلك ولم أجده، ولو وصلت هذه الأنابيب إلى الجزيرة، فلا حاجة إلى القمع المقلوب».
العثور على مثل هذه الأداة التي تحدثت عنها كتب التاريخ، وتناقلت الأجيال عنها العبارات، كان اكتشافاً أثرياً من دون أدنى شك، وعن ذلك أوضح: «عندما عثرت على هذا القمع انتشر الخبر في بعض الصحف العربية، كما وضعوا صورتي إلى جانب الخبر مع أنّي لا أعرف من أين جاؤوا بها، فأنا أشكر صنيعهم، وأشادت بعض الفضائيات العربية والأجنبية باكتشاف القمع المقلوب بالقول: إنّ الفينيقيين قد شربوا المياه العذبة بواسطة "الأقماع المقلوبة" التي انتشلها "صلاح بهلوان"، وهذه أصبحت حقيقة غيّرت وجه التاريخ وليست نظرية.
عندما كان في حوزتي دفعوا لي مئة كغ من الذهب ولم أوافق، وفضّلت أن يبقى في بلدي، بالرغم من أنني لم أتلق أية هدية أو ثمن أو أجور أو تكريم على مدى خمسة عشر عاماً بزورقي مع اثنين من بحارتي كنت أدفع أجورهما خلال تلك المدة».