«ليس من المستغرب أن نشعر بقصائد الشاعر "منذر أحمد" الانزياح الإبداعي الشعري فهو فوضوي السلوك ومشاكس الوشوشات ومعاكس النمطيات في حياته الفكرية والأدبية».
الحديث كان للشاعرة "أحلام غانم" لموقع eSyria بتاريخ 2/4/2009 وأضافت تقول: «الشعر عند "منذر أحمد" يحمل نمطية خاصة به، فهو يعكس أداءه بالحياة على أدائه الشعري، وكثيراً ما يعيش التمرد الذاتي في قصائده لذلك، يخلط بين التمرد الظاهري الطبيعي والإبداعي ويقدم لنا ومضات وضاءة في شعره»
الشعر عند "منذر أحمد" يحمل نمطية خاصة به، فهو يعكس أداءه بالحياة على أدائه الشعري، وكثيراً ما يعيش التمرد الذاتي في قصائده لذلك، يخلط بين التمرد الظاهري الطبيعي والإبداعي ويقدم لنا ومضات وضاءة في شعره
موقع eSyria التقى الشاعر "منذر أحمد" في قريته "بيت خميس" بالحوار التالي:
** سأقارب السؤال حسب الزمن، فمنذ خمسين عاماً، كان صراع إنساننا مع الطبيعة وهذا ما أنتج نوعاً من الفلكلور الحياتي المتنوع والغني بالعبرة فكان كل شيء طبيعي وبكر، فالأرض طاهرة، والهواء نقي، والطبيعة تشكّل لوحات فنية وجمالية مدهشة ومزينة بالغابات والأحراش والطيور بتنوع بيئي رائع وأخاذ، فكنت أينما ذهبت تسمع لحناً طبيعياً من العصافير الحسان، أما عن البشر فحدِّث ولا حرج فكل مفردة من حياتهم طقس يتوارثه الأبناء عن الآباء، فمثلاً موسم زراعة القمح وحصاده مروراً بالبيادر وحتى يصبح في البيوت، تتخلله أعراس وأفراح وأهازيج وكأننا في حضرة إله الخصب "تموز".
وإذا نقلنا الكَاميِرا إلى إنشاء أحد البيوت، فإن عرساً حقيقياً يستمر من بداية الإنشاء حتى وضع السقف المكون من الخشب والبلان والتراب ولا ينتهي إلا بسكن صاحب المنزل وإشعال النار في الموقدة.
والعرس طقس حقيقي يستمر سبعة أيام فيه كل التراث الشعبي من لباس وغناء ويتقدَّم العرَّاسة عقيد من عليَّة القوم وتتخلله مباراة في القوة، يقوم أحد من جماعة العريس برفع جرن من الحجر إلى أعلى يده.
وإذا انتقلنا إلى قشر البرغل ففلكلوره من نوع خاص يقدم فيه نوعاً من الشكل المسرحي ومباراة في القوة والغناء.
إنّ العلاقات السائدة في بيئتنا كانت أقرب للمشاعية بسبب التكامل في الحاجيات، فالإنسان الفقير كلُّ النّاس تعطيه بدون مِنَّةٍ، وأي إنسان يحتاج إلى شيء من عند جاره يأخذه حتى في غيابه، وكان الفرد يلتزم بكلامه مهما دفع من ثمن، هذه الحياة الفطرية الطبيعية العفوية كانت المشاكل التي تتخللها ومنها الجريمة قليلة جداً، إذاً الإنسان كان يسخر طاقاته وجهوده في سبيل دينه وسجيته وعفويته ومجتمعه والآخرين بشكل صادق وحقيقي.
هذا المستوى الأول أما المستوى الثاني، فبعد خمسين عاماً، فنفس البيئة والناس والاختلاف فقط في الأسماء، ولكن الحياة اختلفت بالمطلق تقريباً، فنتيجة إزالة الغابات والأحراش لصالح الزراعة واستخدام الأسمدة والسموم، تلوث الجو وتصحّرت الطبيعة والأنفس، وقلّت مياه الأمطار واختل التوازن البيئي نتيجة انقراض كثير من الحيوانات والطيور بسبب الصيد والمبيدات،أما الناس فتركوا الفطرة والسجية والعفوية، وتحوّل الإنسان من طقس إلى رقم وبدل أن يضحّي بجهده لخدمة الجماعة صار من جماعة "اللهم أسألك نفسي" وحكمت الأنانية وكثرت الجريمة والإنسان لا يلتزم بشيء حتى بنفسه لأنها ملك السوق وقيم الاستهلاك وليست ملكه.
تبعاً لما تقدّم فإنّ تلك المفارقات والتناقضات كوّنت وعي "منذر أحمد" فانطلق الشعر ليؤرخ لذلك الفلكلور الجميل ولتلك البيئة الرائعة لذا أستمد صورتي الشعرية قبل خمسين عاماً.
** تتوالد صوري الشعرية من إعادة طرح الأسئلة الإشكالية، وخلق الأقانيم المنفتحة على كل ما هو جديد، وبانزياح المسافات بين ما هو كائن وما يجب أن يكون وكذلك من غربة الإنسان داخل نفسه وداخل هذا الكون الذي يحكمه جهل المجاهيل بالمجهول وتنبعث صورتي الشعرية من اللاوعي والماوراء والمختلف والعالم السفلي لتعرّي الميثولوجيا وتسبح باتجاه القوالب الجاهزة والنمطية، لتكسرها وتسمع فحيح الدراما التي تعتقل الزمن لتشيئ اللحظات وتكتب تاريخ الضوء الذي سطع من الماء الغافي على أسرار من أصبحوا مستحاثات يؤرخوا لكل تلك العوالم التي هي ومفرداتها أساس صورتي الشعرية التي تؤرشف لكل ما يبوح به الظلام.
** أقلق على الوجود من الوجود الذي يستخدم البحار وباطن الأرض للتفجيرات النووية أقلق من الأرض على السماء، ومن الحاضر على الماضي، أرتجف من الأبناء على الآباء ومن النفس على الأنفس وكذلك من العين على الحاجب، أقلق على الحياة من غاز الأوزون، أخاف على الحقيقة من الحقيقة وعلى العيش من اللا عيش، أخاف ألا تكون هذه حقيقتنا، أخاف من الكذابين والدجالين والأفاقين، وكل من باعوا أنفسهم للجحيم، أقلق على البحر إذا شربه حسّون، أخاف على الجغرافيا إذا قرضتها النواميس وعلى التاريخ من التواريخ، أخاف على المرأة من الأنثى ومن الصداقة على الوفاء ومن السوق على الحُب، أقلق على الأديان من السياسة، وأخيراً أخاف على الأدب من المتأدبين وعلى الشعراء من المستشعرين وعلى الإنسان حتى خروجهم أجمعين.
** أدبياً أكتب على إيقاع قصيدة النثر لأنها تجعلني أتنقل بين العوالم والزمان والمكان بحرية مطلقة، وأكتب على إيقاع الصراع بين الذكور والأنوثة الذي استقطب بأشكاله كل الصراع الكوني، والذي بدأ من الأسطورة البابلية عندما قام "مردوخ" إله القوة الذكرية وبضربةٍ واحدةٍ شق "تُعامة" أحد تجليات "عشتار" نصفين فخلق من نصفها العلوي السماء ومن نصفها السفلي الأرض واستمر الصراع بتحميل "حواء" طرد الجنس البشري من السماء وباتهام "العذراء المقدسة مريم"، وكذلك أكتب على إيقاع الصراع الفلسفي على مقولة "العقل-المادة" وأيهما أسبق والذي راح ضحيته عشرات الفلاسفة تاريخياً من "سقراط إلى الحلاج والسهروردي" والفيلسوف الإيطالي الذي عُلِّقَ على عمود وأُحرق من قبل "ديوان التفتيش" وهو "جوردانو برونو"، وأكتب على إيقاع العدم من "انكيدو" رفيق "جلجامش" وحتى يومنا هذا وإلى آخر الزمن، وأكتب على إيقاع تطوّر فكرة "الألوهة" من عبادة مظاهر الطبيعة وبعض الحيوانات حتى وصلنا إلى الديانات التوحيدية، وأكتب على إيقاع افتراس الإنسان للإنسان وهذا الدم النازف من جريمة "قابيل" مروراً برمي "يوسف" بالجب من قبل إخوته، وحتى يومنا هذا، وأكتب على إيقاع الإنسان الذي يعزف على سيمفونية الوجود ونسمع صداه في كل شيء، وأكتب على إيقاع "القوة هي الحق" لـ "كونفوشيوس" والتي أفرزت لنا نهج الاستعباد الذي صبغ تاريخ البشرية.
** إن مفردات الوجود هي: التراب – الإنسان – الحيوان – النبات – الجماد – الهواء – الماء – الزمن.
العلاقة بينهم تفاعل وجدل، الناطق الوحيد هو الإنسان الذي افترس الإنسان والحيوان، وصحَّر الطبيعة بتفريغها من الخضرة، ولوَّث الماء والهواء والأرض بصناعته المتعددة ومواده الكيماوية المسرطنة، وفرَّغ الأرض من كثير من أجزائها الصلبة وعمل فيها فراغات هائلة بتنقيبه عن الثروات، وفضح الزمن بالكذبة الكبرى التي سمَّاها التاريخ، وبناءً على ما سبق أعتبر الإنسان "كشاش حمام" لا أقبل شهادته على التاريخ، ولذلك أتجه إلى الأشياء الأخرى لأستنطقها لأنها الشاهد الصامت على ما جرى وجرى بيني وبينها حوار كانت خلاصته، أنها سردت وبالتفصيل الممل عن وجه العملة الآخر للحقيقة المرّة من خلال الدراما البانورامية الصورية في شعر "منذر أحمد" التي تدعي أنها تؤرخ لكل مساحات الظل التي أرشفت في الظلام والمجهول والتي عرّتها صورة "منذر احمد" وتدعي ثانية أنها الشاهدة الوحيدة على ما جرى.
** أساطير التراب، ثوب جديد، وفتح في المقاربة، وطفرة صوَّرَت فوتوغرافياً وبأدوات حديثة كل ما شاهدته بزيارتها للعماء وحضورها الانفجارات الكونية وانبعاث كل تلك العوالم، واستنطقت الفلسفة والجغرافيا والتاريخ والميثولوجيا، وتدَّعي أنها كثّفت هذا الكون بإيجاز لافت، وقاربته بطريقة جديدة لا تشبه ما سبقها لذلك هي خارج سياق أحكام ومفاهيم النقد السائدة، وتحتاج لمقاربات جديدة في النقد للحكم عليها وعلى مجموعتي الأخرى "فوانيس" التي هي قيد الطبع، وتقدم إضافة واستكمالاً لما بدأته أساطير التراب من حيث الموضوع والمقاربة والصورة والأدوات.