الكتابة أحد أنواع المغامرة الداخلية، وهي إرضاء للنفس، وتفريغ لشحناتها الانفعالية التي قد تؤثر سلباً أو إيجاباً على الروائي وحالاته النفسية.
فالروائي والقاص "محمد أحمد معلا" كاتب هاوٍ، كتب أولى رواياته خلال دراسته الطب في "أسبانيا"، وعندما يستذكرها يشعر بغربتها عنه، فأفكارها ليست بأفكاره في حالته الهادئة، وإنما هي أفكاره في لحظات التحليق والابتعاد عن الواقع، وهذا ما أكده خلال لقاء موقع "eSyria" به بتاريخ "5/10/2011" حيث كان لنا الحوار التالي:
الأديب "محمد معلا" موضوعي وعقلاني ويتمتع بإنسانية راقية انعكست على أعماله القصصية فجعلت منها ثوباً مزركشاً يلبسه ويتحلى به وينسجم مع جزئياته الفنية المتنوعة، فأنا أرى فيه موهبة استثنائية خاصة أنه يعمل في مجال الطب، حيث أدرك طريقة المواءمة بين العمل في الطب وبين العمل في الأدب
** عندما يكون الإنسان مريضاً ترى منه الجانب الضعيف، وعندما يتلقى الأدب يتلقاه بأرق ما يملك وهو القلب والإحساس، وهذا التداخل بين الجانبين لدى الإنسان الذي أعتبره متلقياً، محفز لي كطبيب للمتابعة وتقديم المزيد في الأدب الذي هو هوايتي وليس مصدر رزقي، فالكتابة علاج نفسي، عندما أكون مشحوناً بشحنات نفسية وداخلية معينة.
** لا أحاول الكتابة أبداً، ولكني أكتب عندما تطغى الفكرة في ذهني، فأنا أكتب عندما لا أستطيع إلا أن اكتب، فعندما تنبت الفكرة في الرأس وتبدأ بمطالبتي بالتنمية والإثمار، أعمل عليها بشكل جدي، لأنها تلقائية دون أي تحفيز قبل النمو.
** طبعاً الذاكرة لها تأثيرها الكبير على كتاباتي، والبصمة الطفولية لها تأثيرها أيضاً، وهذا يأتي بلا تقصد، فالموهبة هي من عملية الخلق التي لا يمكن فهمها أبداً من قبل أي كان.
** الكاتب الموهوب هو الأقدر على التعبير، لأن الأساس في الكتابة هي الموهبة الحقيقية، حيث يوجد في الرواية جو نفسي خاص محفز فعال للكاتب، فكل إيحاءات الطفولة والانطباعات السابقة لجميع مراحل الحياة تندمج وتخلق هذا الجو.
وأنا أعتقد أن الموهبة تُخلق مع الإنسان، فدراستي الأكاديمية علمية بحتة بعيده جداً عن الأدب أو ما يلامسها من الفروع الأكاديمية، فلا بد للموهبة من أن تنبثق وتنمو وتتحفز في ظروف معينه تجعل من صاحبها كاتباً.
** أذكر أني خلال دراستي الطب كتبت رواية ريفية بسيطة أسترجعها في أغلب الأحيان بمخيلتي، فأضحك كثيراً على أفكارها غير الناضجة، وأسعد أكثر لأنها بواكير أفكاري الناضجة والجريئة حالياً.
** لا أستطيع التعبير بشكل كامل، ولكن أقول إنه عندما أكتب هناك لحظات تحليق، أدركها في اليوم التالي خلال محاولة قراءة ما كتبت، إضافة إلى استغرابي كيف كتب ذلك، وهل أملك تعابير وأفكار كهذه، وهذا دليل على أن لحظات تحليقي لا إرادية.
** بالطبع هناك تفاعل ذاتي ضمن الكاتب، فأفكاره يطرحها على لسان شخصياته الروائية، حيث تخلق الشخصيات في داخلي فتأخذ نوعاً من الاستقلالية حتى إنني أعالج فيها حالة نمو الاستقلالية، فلدي إحدى شخصيات رواياتي تظهر وكأنها تعاتب الكاتب لأنه حذف إحدى أفكارها، وهذا يؤكد أنها أخذت استقلالية تامة عن استقلاليتي ككاتب عند كتابتها.
** لا يمكن لأي كاتب أن يكتب إلا من خلال الواقع المتخيل، أي إن الجذور هي من الواقع والأغصان هي من الواقع المتخيل، وهو مستوى آخر من الواقع الذي يمكن العمل عليه، لذلك يمكن القول إنني أحظى بمتلقين لهم خصوصيتهم التي أرغب بها، وهذا يجعلني أكتب لإرضاء ذاتي الداخلية لتصبح صفحة بيضاء.
** أنا لا أعاني من شيء محدد، ولكن الكتابة تساعدني على تفريغ شحنات داخلية معينة لا أتقصد أن اكتب عنها، وإنما وصولها إلى حد الذروة هو محرضها الوحيد.
** الجواب صعب، تتشكل شخوص روايتي في رأسي وتتكامل مع بعضها بعضاً، وعندما تلح عليَ بالكتابة أكتب، فلحظات المخاض لحظات انفعالية تحصل على استقلاليتها التامة بعد الولادة.
بعد الكتابة أبدأ بتشذيب ما كتبت فأحذف منه الكثير ليبقى ما يناسب الواقع والبيئة والظروف، ولكنها تبقى في رأسي كما كتبتها قبل الحذف، وهنا ينتهي كل شيء بيننا.
** أنا أصلح لأن أكون روائياً أكثر مما أكون قاصاً، فجميع من قرأ كتاباتي قال إن كل قصصي تصلح لأن تكون روايات طويلة، لأنها حالياً روايات قصيرة وليست قصصاً، فالقصة لدي لحظة بسيطة عابرة، أما الرواية فهي حمالة أفكاري الكبيرة والكثيرة.
* ما أسس كتابة الرواية؟
** لا أتقيد بشيء لتكون موهبتي موهبة بسيطة تحاول النمو دوماً، فعندما أكتب أتمرس وأصبح أقدر على حماية أفكاري وتمريرها على أوراقي بشكل صحيح.
** القراءة ثقافة وهي لا تأتي خلال فترة قصيرة من الزمن، وإنما تحتاج إلى سنوات كثيرة، وإلى مد وجزر، ففي الستينيات كنا نتباهى بالكتابة والقراءة على عكس الآن.
** تعود فكرة المسرحية إلى ما أستقر في ذهني منذ طفولتي البعيدة أن "هاروت" و"ماروت" كانا ملاكين عابا على البشر خطاياهم، فأهبطهما الله إلى الأرض ابتلاء، وأسلكهما الشرط البشري، ففتنا بامرأة بابلية، واستحقا العقاب، وهي قصة رمزية لها إسقاطاتها المعينة، ولكن ما حرض وأثار أفكاري مصير الملاكين، وهل حظيا بالتوبة والغفران بعد أن حل بهما العذاب، أم إنهما ترديا إلى مزيد من العصيان؟
فرحت أكتب رواية تعالج قصتهما في العقاب متخيلاً أحداثها في عام الألفين قبل الميلاد، وبعد البدء بالكتابة وجدت نفسي أعيد طرح السؤال بشكل مغاير، هل كان التنكيل بهما قضاء إلهياً نهائياً مبرماً كالذي حل بإبليس مثلاً؟ أم إن عقابهما في الدنيا فرصة أخرى منحت لهما للسعي في نيل الغفران؟ وفي هذه الحالة هل تصلح الأرض لأن تكون مطهراً؟ وفجأة توقفت عن الكتابة ورحت أتخيل هبوط الملاكين إلى الأرض روحين صافيتين، وكيف حدث أن قايضا مجد الله بملذات الجسد؟ .. إذاً القضية قضية هيمنة وامتلاك بين الروح والجسد، وأيهما تحت تصرف الآخر، لذا عدلت عما بدأت، ووجدت نفسي أكتب هذه المسرحية التي ضمنت أسطورة التكوين البابلية.
وفي لقاء مع الشاعر "محمد حمدان" قال: «الأديب "محمد معلا" موضوعي وعقلاني ويتمتع بإنسانية راقية انعكست على أعماله القصصية فجعلت منها ثوباً مزركشاً يلبسه ويتحلى به وينسجم مع جزئياته الفنية المتنوعة، فأنا أرى فيه موهبة استثنائية خاصة أنه يعمل في مجال الطب، حيث أدرك طريقة المواءمة بين العمل في الطب وبين العمل في الأدب».
يشار إلى أن الأديب "محمد أحمد معلا" من مواليد مدينة "صافيتا" قرية "جورة الشطبوش" عام /1948/ تلقى تعليمه في مدينتي "الدريكيش" و"دمشق" ودرس الطب في "أسبانيا" وتخصص بالأمراض الداخلية والقلبية، وله مسرحية "حاروت كاهن بابل" ورواية "الولي الجهيض" و"حيث تنبت الصخور" و"على أقدام السماء" و"وداعاً يا ذئبتي الجميلة"، و"قانا والكلمات" وهي مجموعة قصصية، إضافة إلى مجموعة "قفيلون" القصصية.