تنوّع إبداعاته وغنى تجربته الفنية جعلا عالمه متحفاً غنياً شمل مختلف أنواع الفنون التي جالت بين عوالم الشعر الغنائي والتصوير والتشكيل والموسيقا، جسّد من خلالها توثيق ذاكرة الماضي والحاضر، وترك بصمته الحضارية والثقافية في كل مكان يجول فيه.
الفنان التشكيلي "غازي عانا" في حديث لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 16 آب 2016، تحدث عن الفنان "جورج عشي" بالقول: «امتلاكه العديد من المواهب يجعل كل عارفيه متجولين ضمن عوالم غنية ومتنوعة، فمن خلال التأمل في لوحاته تكتشف كم يشبه هذا الفنان ببساطته أجواء أعماله بتنوع فضاءاتها الإبداعية وهامش الحرية الذي تتمتع بها من حيث تداخل الصياغات فيها، وتناغم ألوانها وتوافق إيقاعات اللون والضوء فيها، إضافة إلى أن التشخيص احتل مساحة كبيرة في تجربته، وكان "البورتريه" من أهم الموضوعات التي تشغله لخصوصيتها، خصوصاً أنه يعتمد فيها الواقع وما بقي في الذاكرة من هيئة الأشخاص التي يرسمها بعد أن يحملها مشاعره لتبدو حقيقية أكثر من الحقيقة. واقترنت بدايات فن التصوير الضوئي باسمه وأخلص له إلى درجة امتازت خصائص ومقومات المحفورة والمطبوعة كلوحة منجزة تقنياً وتشكيلياً لفنان مصور، فعلى الرغم من امتلاكه العديد من المواهب، إلا أنه لم يفكر بالاحتراف أو التفرغ لواحدة من تلك الحالات المبدعة، ليبقى هاوياً محباً وشغوفاً بها جميعها».
الوجوه المعبرة هي التي تستهويني لأقتنصها؛ فأنا أصوّر لأستمتع بكل لقطة ألتقطها وأجد فيها متعة حقيقية
الناقد التشكيلي "سعد القاسم" حدثنا عن الفنان "جورج عشي" بالقول: «تتعدد الصفات الإبداعية التي تميز بها؛ من شعر، وموسيقا، وتصوير ضوئي، وفن تشكيلي، وقد استطاع في كل صفة أن يقدم شخصية إبداعية متميزة، وفي اجتماعها تكرس حضوره في الحياة الاجتماعية والفنية السورية، كفنان سوري متعدد الأوجه الإبداعية.
تحفظ الذاكرة الوطنية اسمه كواحد من أسمائها المبدعة المشرقة، حيث تحتل تجربته مكانة متقدمة في فن التصوير الضوئي في "سورية"، وترتبط باسمه مجموعة عملاقة من الصور الضوئية المتميزة التي توثق الأسواق الشعبية والمهن، والأماكن، والأبنية، والشخصيات الفنية والأدبية والاجتماعية السورية، فكان مساهماً أساسياً في نادي التصوير الضوئي، وله دوره الفاعل في توسيع نشاط النادي خارج "سورية"، كما اكتسب شخصياً تقديراً تجاوز حدود بلده.
ولم تكن الصورة الضوئية الوسيلة الوحيدة للتعبير عن روح الإبداع المتدفقة عنده، فإلى جانبها حضرت بقوة لوحته التشكيلية ذات النكهة الخاصة التي كرسته كواحد من الأسماء التي تمتلك حضوراً حيوياً ومهماً في المشهد التشكيلي السوري؛ فإلى جانب الصورة واللوحة حضر النص الشعري الذي امتاز بالوضوح وجمال الصياغة اللغوية بآن واحد».
«الصورة هي وثيقة إلى جانب كونها فناً؛ فهي ذاكرة الوطن ومرجع حضارتها، وموثق علومها، ومنطلق نهضتها وتطورها»؛ هذا ما قاله الفنان "جورج عشي" في بداية حديثه عن مسيرة حياته، وأضاف: «ولدت في قرية جبلية مطلة على البحر من الغرب وقلعة "المرقب" من الشمال، ونهر "مرقية" من الشرق تدعى "ضهر صفرا" في محافظة "طرطوس"، وضمن هذا الجو الجميل والصافي رأت عيناي النور في عام 1940؛ ضمن أسرة محبة للعلم والمعرفة، فوالدي كان مدرّساً للغة العربية، وكان له الفضل الأكبر في تنمية مواهبي وتطويرها، قضيت مراحل طفولتي الأولى فيها، ثم انتقلت إلى مدينة "اللاذقية"، فدرست الابتدائية في مدرسة "راهبات القلبين الأقدسين"، والمرحلة الإعدادية في مدرسة "الأرض المقدسة"، وبعدها انتقلت عائلتي إلى مدينة "حلب"، وأتممت دراستي ونلتها من ثانوية "الأرض المقدسة" عام 1959؛ وخلال هذه السنوات التي عشتها متنقلاً من مدينة إلى أخرى تطورت وتنوعت مهاراتي الفنية، ولكن البدايات كانت مع التصوير بعمر التاسعة؛ فقد كان بقرب بيتنا في "اللاذقية" مصوّر أرمني الأصل يمتلك مخبراً للتصوير، وكنت أثناء ذهابي إلى المدرسة أتوقف وأتأمل الصور الموجودة على الواجهة، وقد لاحظ فضولي فاهتمّ بي، وعنده اكتشفت الخيوط الأولى للتصوير، وكانت أول قراءة لي للصورة الفوتوغرافية، كان اللعب في هذا العمر مع آلة التصوير والأفلام والورق الحساس مجرد اكتشاف واستمتاع مؤقت فقط، ولم يخطر ببالي إطلاقاً أنني قد أكون مصوراً فوتوغرافياً معروفاً عربياً وعالمياً».
وتابع يبحر في رحلته مع الفن: «أما بالنسبة لموهبة الرسم، فقد كانت البدايات بالمرحلة الثانوية، فقد طلب مني رسم أيقونات للكنيسة من قبل خوري هولندي كان مديراً للمدرسة التي أدرس فيها، وقد نالت الإعجاب، ورسمت له أيضاً لوحة لـ"بتهوفن"؛ وبعدها انتقلت إلى رسم "البورتريه" والطبيعة الصامتة؛ هذا كله كان من دون دراسة أكاديمية، وبدأت أعمل بالمجالين معاً مع الاطلاع الدائم لما يصدر من كتب عن التصوير والرسم وتقاناتهما المختلفة، إضافة إلى كتابة الشعر المحكي ونظم الأغنية والعزف على آلة الكمان من حين إلى آخر، جملة هذه الهوايات وفرت لي سبل البحث والتجريب وخوض غمار الإبداع المتلون شكلاً وأداة بكثير من الروية والهدوء والتميز».
«الوجوه المعبرة هي التي تستهويني لأقتنصها؛ فأنا أصوّر لأستمتع بكل لقطة ألتقطها وأجد فيها متعة حقيقية»؛ هذا ما قاله الفنان "جورج عشي" عن هوايته بالتصوير الضوئي، وأضاف: «التصوير الضوئي لا يرتكز فقط على الموهبة، بل هو علم قائم بذاته له علاقة بعلم الجمال والكيمياء والفيزياء، ولا يجوز أبداً أن نهمل كل هذه الأمور مجتمعة، كما لا يجوز أن نصوّر ونترك الآخرين يطبعون لنا صورنا، المهم أن نقوم بالعمل كاملاً من ألفه إلى يائه؛ هذه كانت طريقتي بالعمل التي تشعرني بالمتعة، وقد طبقتها بكل الفنون الأخرى التي أتقنتها وأبدعت فيها، فالفن يبرز كل عنصر من عناصر التجارب في مسرح الحياة بصورة من الصور، وليس هناك سبب يمنع التصوير من أن يكون موسيقا، وتكون عناصر الخط واللون والكتلة فيه هي كل ما يستولي على الاهتمام، فهناك علاقة تكاملية ترابطية بين مختلف الفنون؛ فالرسم هو نوع من الشعر يستهوي الناظر ويؤثر فيه، وهو حلم يماثل في بعض وجوهه أطياف الكلمات والإيقاع؛ فالرسام يعمل باللون والخطوط، والمصور الضوئي بالأضواء والظلال، والشاعر بالكلمات والألحان، هكذا تتنوع أدوات التعبير وموادّه، لكن الهدف الأساسي لجميع ضروب الإبداع الفني إمدادي بمتع جديدة وإبداعية تغني تجربتي الفنية».
الجدير بالذكر، أن الفنان "جورج عشي" حاصل على دبلوم ديكور بامتياز من المدرسة الدولية في "بيروت" عام 1972، وله العديد من المشاركات بمعارض وتظاهرات فنية داخل "سورية" وخارجها. حصل على العديد من الجوائز العربية والدولية، منها: الجائزة الذهبية الخاصة لاتحاد المصورين العرب في "بغداد" عام 2003، وحاصل على الجائزة الأولى لمهرجان الأغنية الشعبية عام 1975، وحصل على الجائزة الثانية لوزارة الثقافة السورية في مسابقة تأليف الأوبريت الغنائي "خيال الريح الأزرق" عام 1967، وهو العضو المؤسس رقم "1" لنادي "فن التصوير الضوئي" في "سورية"، وعضو بجمعية المؤلفين والملحنين والموزعين في "باريس" بصفة شاعر أغنية، كما أنه من الأعضاء المؤسسين للفرقة السيمفونية الوطنية عام 1960 في "دمشق"، إضافة إلى أنه أصدر مجموعتين شعريتين باللغة المحكية السورية، وهما: "كلمتين زغار" 1964، و"الجوع والحب" 1970، وهو مدرّس مادة التصوير الضوئي في كل من معهدي الآثار والمتاحف، والفنون التطبيقية في "دمشق".