عندما يقرأ المواطن الحلبي على بطاقته الشخصية محل قيده يرى مثلاً "الحميدية" و"الجلوم" و"الفرافرة" وغيرها من الأحياء القديمة لا يدري أنّه يقرأ تاريخ مدينة "حلب" لأنّ الأسماء التي أُعطيت إلى الأحياء وخاصّة القديمة منها تدل على تاريخ هذه الأحياء والمناسبات التي أقيمت من أجلها، ومن هذه الأحياء التي تحمل حكاية من حكايات مدينة الشهباء محلة "الدباغة العتيقة".

حول حكاية هذا الحي وسبب تسميته بهذا الاسم يقول الدكتور "محمود حريتاني" المدير السابق لآثار ومتاحف سورية الشمالية لموقع eAleppo: «يتساءل المرء زائراً كان أو مواطناً عن وجود مئذنة مربعة الشكل أيوبية الطراز إلى جانب جدران جامع مجدد بالقرب من" دوار السبع بحرات"، وكذلك عن وجود مئذنة أثرية قديمة قائمة بلا جامع مقابل "باب إنطاكية".

محلة "الدباغة العتيقة" عدد بيوتها 83 بيتاً يسكنها المسلمون واليهود ومجموعهم 760 شخصاً، يحدها قبلة "سويقة حاتم" وغرباً "حي المصابن" المعروفة أيضاً بقسطل الحجارين وشمالاً "بحسيتا" وشرقاً "سويقة علي"

طبعاً وجود المئذنتين في مكانين مختلفين هو دليل تاريخي على تطور مدينة "حلب" قبل حوالي سبعمائة سنة وأربعمائة سنة من الآن فموضعهما مترابطان ترابطاً وثيقاً، بالنسبة للمئذنة الأولى والموجودة قرب "دوار السبع بحرات" فهي لجامع "الدباغة العتيقة" وقد حُفظت /أي المئذنة/ كما هي من القرن الثالث عشر والجامع نفسه فاعتقد بأنّه جُدّد في القرن الرابع عشر وكان يُعرف باسم "جامع الرومي" ولم نر مصدراً معللاً لهذه التسمية، وقد أُرخ أحد القبور في الجامع بتاريخ 807 هجرية 1404 ميلادية وقبر آخر بتاريخ 887 هجرية 1483 ميلادية».

مئذنة الدباغة العتيقة

وحول تاريخ الحي والجامع يضيف "حريتاني": «لقد كانت "حلب" في العهد الأيوبي مزدهرة وكان معمار "حلب" الكبير الملك الظاهر "غازي بن صلاح الدين" قد اهتم ببناء الجوامع والمدارس والربط /جمع رباط/ والخانقوات وغيرها، وكانت إحدى محلات "حلب" الهامة في عهده هي محلة "الدباغة" الواقعة بالقرب من "سويقة علي" و"سويقة حاتم" في الطرف الشمالي الغربي من المدينة فالمدابغ توجد عادة على أطراف المدن لأسباب هي: حاجتها إلى الجلود التي يتم شراؤها من أسواق بيع الحيوانات التي تكون عادةً على أطراف المدينة بعيداً وكذلك قربها من المسالخ وهذه أيضاً تكون في نهاية أطراف المدينة، وحاجتها إلى الماء بالقرب من نهر أو قناة أو بحيرة وكذلك حاجة الدباغين من أجل تجفيف الجلود إلى مساحات واسعة، وأخيراً الروائح الكريهة التي تطلقها وتسبب الإزعاجات للجوار وهذه العناصر لا يمكن تأمينها إلا في أطراف المدينة».

ويتابع: «كانت الحياة الاقتصادية قد ازدهرت في "حلب" في العهد الأيوبي كعاصمة كبيرة في شمال سورية كما وجد بلاط وجيش كبير على أتم الاستعداد لمحاربة الصليبيين فيها، كل ذلك أتاح بشكل خاص تطور الأسلحة وصناعة الجلود التي وجدت مجالاً حيوياً لمنتجاتها وهكذا فإنّ هذا القسم من المدينة بدأ بالتخصص في صناعة الجلود ونشأ حي كامل دعي بحي الدباغة وكانت هذه التسمية قد ظهرت كمثيلاتها من الأحياء المشابهة مثل "حي المصابن"».

مئذنة الدباغة الجديدة

وحول أبرز معالم حي "الدباغة العتيقة" يقول: «من أهم المعالم "جامع الدباغة العتيقة" الذي حفظت مئذنته كما هي من القرن الثالث عشر، والى جانبه "مسجد شمعون" ونسب إلى نبي الله و"مسجد البكفالوني" في الزقاق النازل لمسجد شمعون ويؤرخ من العام 1150 هجرية 1742 ميلادية، كما ذكرت المصادر التاريخية "حمام السكر" تجاه "جامع الدباغة العتيقة" وقد تكون قد خُصصّت للدباغين.

"محلة الدباغة العتيقة" كانت إحدى فعاليات "حلب" الاقتصادية وقد أصابها ما أصاب غيرها فقد خُضعت إلى تنظيم عمراني منذ الستينيات من القرن الماضي حيث شُقت فيها الشوارع المؤدية إلى "الجامع الأموي" وإلى "السجن القديم" فضاعت معالمها الأيوبية القديمة إلا أنّ المئذنة الجميلة والقديمة بقيت صامدة شامخة تجاور زميلتها الأقدم منها مئذنة "الجامع الأموي" بالرغم من مظهر الجامع الجديد والسبع بحرات المجاورة».

وحول سبب تسمية المحلة والجامع بالدباغة العتيقة أو القديمة يقول "حريتاني" موضّحاً: «قلت في بداية الحديث أنّه في الجهة المقابلة لباب إنطاكية توجد مئذنة بلا جامع وهي مربعة الشكل مبنية من الحجارة الكبيرة المنحوتة وحالتها جيدة ليست بالمائلة أو الناقصة وقد كانت لجامع عامر لعبت دوراً في التاريخ العمراني والاقتصادي لمدينة "حلب" القديمة قبل وخلال القرن السادس عشر وبعده واستمرت حتى فترة قريبة، ففي العام 1570م أقام والي حلب العثماني "محمد باشا" والمعروف أيضاً باسم "إبراهيم خان زادة" مجموعة عمرانية كبيرة عُرفت بوقف "إبراهيم خان زادة" لأسباب عمرانية فرضها توسع المدينة في الفترتين الأيوبية والمملوكية وخاصّة في الجهة الشمالية من "الجامع الأموي" في موقع "السبع بحرات" اليوم حيث كان يقوم "حي الدباغة" والذي لم يعد بالإمكان استمرار بقائه هناك، وهكذا تم نقل الدباغين بأمر الوالي المذكور إلى الغرب من "باب إنطاكية" وبالقرب من "نهر قويق" منذ العام 1570م كما قلت، وسُمي "حي الدباغة الجديد" بينما بقي "حي الدباغة العتيق" أو القديم موضوع حديثنا داخل الأسوار، أي سُمي الحي الجديد بالدباغة الجديدة وبينما حمل الحي القديم اسم "الدباغة العتيقة"».

وحول حي "الدباغة العتيقة" أيضاً يقول مؤرخ "حلب" الشهير الشيخ "كامل الغزي" 1853 -1933 في كتابه /نهر الذهب في تاريخ "حلب"/ -"المطبعة المارونية" في "حلب" 1342 هجرية 1923م: «محلة "الدباغة العتيقة" عدد بيوتها 83 بيتاً يسكنها المسلمون واليهود ومجموعهم 760 شخصاً، يحدها قبلة "سويقة حاتم" وغرباً "حي المصابن" المعروفة أيضاً بقسطل الحجارين وشمالاً "بحسيتا" وشرقاً "سويقة علي"».

وحول آثارها يقول "الغزي": «"جامع الدباغة العتيقة" هو جامع قديم حافل له منارة مربعة الشكل عالية مبنية بالحجارة الهرقلية وله بابان أحدهما من شرقيه يدخل منه إلى قبليته والآخر من غربي شماليه يُدخل منه إلى صحنه وفي شرقي شماليه قبور تاريخ أحدها 807 هجرية ولهذا الجامع من الأوقاف أربع دور يبلغ ريعها سنوياً نحو أربعة آلاف قرش، ومن آثار المحلة أيضاً "مسجد شمعون" وُيقال له "مسجد سويقة حاتم" وهو مسجد صغير وقديم اشتهر بأنّ فيه نبي الله "شمعون" ولم أرَ من ذكر ذلك من المؤرخين ومحل ضريحه في هذا المسجد على يمنة الداخل لقبليته قرب بابها وله من الأوقاف دار يبلغ ريعها نحو ثمانمائة قرش في السنة. و"مسجد البكفالوني" الواقع في أواسط الزقاق النازل إلى "مسجد شمعون" وهو قديم كان يوجد فيه نخلة وأظنه مدفناً فقد وُجدت في غربيه عدة قبور مدفون بأحدها الشيخ "عبد الوهاب البكفالوني" المتوفى سنة 1155 هجرية ويوجد في هذه التربة من شرقيها شبه قبلية تعلم فيها الأطفال».