صعدت قطار الحياة بقلب محارب شجاع وشهم، رافضة كل أساليب التبعية، مزودة بعلوم اللغة وأسرارها لتكون الأوكسجين لموهبتها والوقود لروحها والنبض لمشاعرها، بعد أن أرغمتها الحياة على الترجل أكثر من مرة، فوضعت بصمتها بأكثر من منتج ثقافي أدبي إنساني.

مدونة وطن "eSyria" تواصلت بتاريخ 5 أيلول 2018، مع الكاتبة "فاطمة نداف" لتحدثنا عن نفسها، فقالت: «أُتوّجُ سنواتي السبعين بالمحبة وصدق المشاعر وشغف الحياة، وأستلّ من قاموسي الكذب والخيانة والمراوغة والتبعية. مارستُ حياتي وفق قناعاتي، ولستُ نادمة بكلّ ما تحملهُ من سلبيات وإيجابيات. وهبتني الحياة أبناء أفخرُ بهم وأصدقاء أعتزّ بهم، كما وهبتني المال والثروة؛ فلم تعمل في نفسي الغرور، ثمّ رمتني على قارعة الفقر، فلم آبه به؛ لأنّ الفقر فقر الروح والنفس».

أُتوّجُ سنواتي السبعين بالمحبة وصدق المشاعر وشغف الحياة، وأستلّ من قاموسي الكذب والخيانة والمراوغة والتبعية. مارستُ حياتي وفق قناعاتي، ولستُ نادمة بكلّ ما تحملهُ من سلبيات وإيجابيات. وهبتني الحياة أبناء أفخرُ بهم وأصدقاء أعتزّ بهم، كما وهبتني المال والثروة؛ فلم تعمل في نفسي الغرور، ثمّ رمتني على قارعة الفقر، فلم آبه به؛ لأنّ الفقر فقر الروح والنفس

وعن تغلغل الأدب في مفاصل حياتها منذ الطفولة، قالت: «تجوّلتُ في البلاد وعرفتُ شتى أصناف العباد، ففهمتُ الحياة أكثر من إيقاع اليوم العادي، وأبعد من مجرّات الكون. أجد دائماً مقعداً في قطار الوقت؛ أنتظرُ ما شاءت المسافات، أختار حلماً حدّ الكلمات، ينتمي إليّ وأنتم إليه بحجم البلاد التي عشقتها، والعباد الذين دخلوا حياتي يتزاحمون في الذاكرة، وأبقى وحيدة شاردة في ليل الغربة والدهشة؛ أتوسّدُ معاطف الأيام بحثاً عن ومضة هاربة؛ فما الحياة سوى فقاعة كبيرة ونحن محشورون في فضائها، نسعى دائماً إلى الانعتاق؛ لهذا كله كانت حروف اللغة تتمشى في نسغي كالأوكسجين مع رنة خطواتي في الحياة، وضمن بيئة تعتاش على قوت يومها، أبي علمني الحرف ببهاء حضوره، وأمي زرعت في نفسي الطموح لكي أتخطى الواقع اليومي إلى الأبعد والأوسع، وكانت محاولاتي الأولى لكتابة الشعر في سنّ العاشرة، حيث نشرت لي مجلة الرأي العام اللبنانية تلك المحاولة، اشتريتُ حينئذٍ عشرين نسخة من المجلة بما كنتُ أوفّره من مصروفي اليومي (فرنكات)، ووزعتها على صديقاتي وجيراني ومعلمتي في الصف الخامس الابتدائي، لا أنسى دموع الفرحِ في عيون أمي وهي تحتضنني وتقبلني، وأنا أشير إلى موضع القصيدة لأنها لا تعرف القراءة. لم يكنْ خياري دراسة الأدب العربي في جامعة "حلب" إلا حباً بمعرفة أسرار اللغة وعلومها، لتكون متاعاً لي في درب لا أعرفُ منتهاه، وكانت السنوات الأربع بدايتي الحقيقية بالكتابة، ولن أنسى فضل من أمسكَ بيدي، وأرشدني إلى معالم الطريق، ومنهم الأديب والكاتب المسرحي "وليد إخلاصي"، والأديب والمترجم المرحوم "جورج سالم"».

أثناء العمل

"الدراسة الأكاديمية لا تخلق موهبة، إنها مجرد إشارات مرور تدلّ على الطريق الصحيح، لكنها لن تعطيك قدمين لتسير بهما في ذلك المعبر"، واستكملت حديثها عن عملها بمجال الصحافة وعلاقته بالأدب، فقالت: «هذا الطريق الشائك يحتاج إلى كثير من القراءة، والخروج من الدائرة إلى أُفق بعيد السفر خارج حدود البيئة. سافرت وعملت في الصحافة الأدبية، منها التحقيقات الاجتماعية والنقل الإعلامي لبعض المؤتمرات والحوارات الأدبية والثقافية، وهنا لا بدّ من التنبيه إلى أنّ العمل الإعلامي يختلف تماماً عن العمل الأدبي، لكنه لا ينفصلُ عنه بالمطلق، فالإعلام على ما يحمل من محاذير ومخاطر يغذي بوجه رئيس العمل الأدبي لما يعطيه من مكونات اجتماعية وفكرية وفلسفية ليكون نواة للعمل الأدبي، فالكتابة الأدبية مسؤولية أخلاقية تستلزم الصدق في بلورة العمل الأدبي».

وعن مسيرتها المهنية والشخصية قالت: «لم يكن الانتشار همّاً بالنسبة لي ولا في أيّ وقت أو زمن، بمقدار همّي بتقديم نتاج يغني ويثمر في فكر وعقل الإنسان في كل زمان ومكان. أهو قدري أن أشهد كل الحروب الحديثة على الساحة العربية بدءاً من نكسة حزيران 1967 حتى الصقيع العربي وكوارثه اليوم؟ أهو قدري أن تحترق وتبعثر كتاباتي ومكتباتي في مدن عشقتها وأحببتها؟ من "ليبيا" خرجتُ مجردةً من كلّ مقتنياتي سنة 1977. من "بغداد" خرجت وبيتي يحترق بما فيه سنة 2006. من "دمشق" نزحتُ هاربة من بطش الإرهابيين 2013. وها أنا ألملمُ ما تبقى مني هنا في آخر نقطة من الكرة الأرضية كنجمٍ أطفأتهُ الكواكب، كأحلام اليقظة تستهلك لحظة التوقد في غمضة عين. تتمشى في لجّة أوجاعي خيول جاهزة للرحيل، لم أخطّط يوماً لأيّ عمل كتابي؛ فالحدث يأتيني بالشخوص الفاعلة والمؤثرة بكل معطياتها النفسية والاجتماعية لأتركها تتفاعل وتفعّل في رحاب الفكرة».

خلال أمسية في المركز الثقافي بـ"أبو رمانة" شتاء 2011

وعن أعمالها الأدبية والإنسانية قالت: «كتبتُ المقالة والحوار والقصة القصيرة والرواية والشعر والنقد في مجال الفن التشكيلي. كنتُ أرسم في بعض الأحيان حين يهاجمني قوس قزح. شاركتُ في بعض المعارض والمنتديات الثقافية والمهرجانات الأدبية، وعملت في مجال النشاط الإغاثي الإنساني بدافع المحبة والإحساس العميق بمعاناة الذين فرضت عليهم الأحداث واقعاً لئيماً، وقد رفدتني هذه التجربة بذخيرة من الأفكار لكتاباتي. في "بغداد" قضيتُ نصف عمري، تعلّمتُ منها الكثير من أدباء "العراق" وشعرائه؛ وتغذّت شرايين حروفي بالمعرفة».

وعن الغربة وتأثيرها قالت: «علّمتني الحياة والأسفار أنّ كلّ شيء زائل عدا بصمة فاعلة يتركها الإنسان قبل أن يغادر. لم أنفصل يوماً عن هويتي وانتمائي، لهذا وأنا هنا أحاول قدر الإمكان الاستفادة من الثقافة الجديدة لأبقى تلميذة دؤوبة في الحياة. "فنلندا" عالم جديد ومختلف بتاريخه وحضارته وبنيته الاجتماعية؛ لذا كان عليّ أن أتلمّس طريقي بتؤدة وحذر حتى لا أقع في متاهة اللاهثين خلف فقاعات الحياة الجديدة، وكي لا أطمس جذوري التي جئت منها. تُرجمت بعضُ أعمالي إلى اللغة "الفنلندية"، إضافة إلى تمثيلها باللغة العربية على المسرح الوطني "الفنلندي"، وشاركت في بعض النشاطات الأدبية».

غلاف رواية المتاهة

وعن رأيها بالمشهد الثقافي اليوم قالت: «العمل الأدبيّ فنٌّ كسائر الفنون كالموسيقا والرسم والنحت، والفن بجوهره نبض الحياة إنْ لم يعبّرْ عنها بصدق فهو زائفٌ وزائل. وما يحدث في المشهد الثقافي اليوم يثير الحزن والغضب والشفقة في آن معاً؛ فقد اعتلت المنابر واحتلت الساحات والشاشات والمسارح واكتسحت المواقع الإلكترونية أصوات هزيلة، وأبواق لجهات معينة مفرغة من كل ثقافة ومعرفة؛ ركيكة التكوين معنى ومبنى. إضافةً إلى السرقات الأدبية علناً من دون حياءٍ أو خجلْ، بل عن سابق تصميم وإصرار؛ في حين انزوى أصحاب الأقلام المبدعة النظيفة في زوايا الإهمال والتجاهل العلني لهم ولأعمالهم، وإذا مررنا على المكتبات اليوم سنجد إسهالاً كثيفاً من الورق المطبوع بلا معنى أو فائدة ترجى، ونادراً ما نعثر على كتاب نفيس، وإذا ما واتتنا الجرأة لحضور أمسيةٍ أو مهرجان سنسمع العجبَ العُجاب والمضحك المُبكي من سقوط اللغة في هاوية الركاكة والابتذال والغموض في المعنى. لقد تحوّلنا إلى آلةٍ صماء تدور في عجلة العولمة التي رسمها أرباب المصالح الكبرى، إلا من أسعفه الحظ من ذوي الإبداع الأصيل والمتجدّد».

من كتاباتها اختارت:

"حواء أنا وتلك لعنتي ...

أن يولد المرء أنثى في قاع يتولى قيادته الذكور

فمحكوم عليها مسبقاً بالإعدام الإنساني ...

إن نهضت وإن جلست فهي عورة مستلبة لوصيها".

الشاعرة "روز المصري" حدثتنا عن الكاتبة "النداف"، فقالت: «الأم القديرة المثقفة الواعية الصديقة الصدوقة الجارة المحبة، جمعتنا أمسية شعرية في "لبنان"، وانتقلت للسكن في الحي الذي أسكنه؛ فتشاركنا الأيام الحلوة والمرّة. عاشت حرب "العراق" واضطرت إلى ترك إرث كبير من مؤلفاتها التي لم ترَ النور، كما عاشت حياة ميسورة في "العراق"، لكنها عاشت الحاجة في "لبنان"، ولأنها امرأة قديرة وواعية تغلبت على جميع أزماتها، وعاشت حرب "سورية" و"تركيا" أيضاً. لكتاباتها لون خاص ونكهة أخرى؛ فهي صاحبة قلم سيال. حروفها بمنزلة قناديل ألقت بها في خندق عميق يحوي مآسي وانكسارات وأحزان وأفراح وآمال أبطالها».

أما المتابع والقارئ "سعيد الراشدي" عنها قال: «هي رمز من رموز الشموخ والكبرياء، كان لقاء التعارف بيني وبينها على مدرجات كلية الآداب بجامعة "حلب"، كانت عيناها تشعان نباهة وذكاء، وعلى الرغم من أنها كانت تنحدر من أسرة متشددة، إلا أنها كانت تتمتع بشخصية اجتماعية منفتحة بمسلكها، ومتحررة بفكرها وطموحة بأهدافها، واثقة من نفسها مدعومة بنشاطها الدائم، وصاحبة طرفة، ميالة إلى حب الحياة، فبدأت أولى مشاركاتها في الأمسيات الأدبية سواء الشعرية أو كتابة القصة القصيرة، ثم لم تلبث بحكم شخصيتها القيادية الفذة أن قامت بترتيب الأمسيات وإدارتها بحرفية عالية، فذاع صيتها بين الطلاب، وكانت في كتاباتها تسبق ذلك العصر الذي عاشت فيه، وكانت متمردة على واقعها، وترفض التبعية بكل أساليبها، وقد تميزت بأسلوبها السهل في الكتابة وبساطة مفرداتها ورهافة حسّها بعيداً عن التعقيدات اللغوية الفجة، فأكثرت من الصور الرائعة بجميع أنواعها، وبكل ألوان الطيف الذي كانت تعشقه كرسامة وفنانة موهوبة أيضاً؛ وهو ما يجعل القارئ لها يسرح في أغلب الأحيان بعالم الخيال، وهو تجسيد حيّ لمشاعرها وأفكارها وأحاسيسها، وفي رواياتها تقدم للقارئ مقاطع أدبية راقية بأسلوب رائع فيه الكثير من المتعة والتشويق. وعلى الرغم من حالتها الصحية السيئة، إلا أنها تعمل بإصرار لتكمل كتابة أحداث رواياتها "عدرا مدينة الشمس"، التي تجسّد فيها واقع الأزمة السورية الحالية وآثارها النفسية ونتائجها المأساوية».

يذكر أن "فاطمة النداف" من مواليد "حلب"، عام 1948، لها العديد من الإصدارات "المتاهة" (رواية)، "عندما تهرب السنونو" (مجموعة قصصية)، "برج العنقاء" (ديوان شعر)، "راقصة المعبد" (ديوان شعر)، "الرجل الذي ابتلع مدينة" (رواية)، بالإضافة النشر في العديد من المجلات والصحف العربية والعالمية في "سورية والعراق ومصر والأردن والجزائر والمغرب وليبيا ولبنان وباريس ولندن ومدريد".