عشقت الطفل ولهوه وعفويته؛ فاستطاعت أن تصل إليه وتقتحم عالمه الجميل، وتقلم تلك الروح الغضة البريئة بكل سلاسة ومهارة، واستطاعت ترتيب أفكارها وتقديمها بقالب جديد ومنظم، ولغة بسيطة تناسب الطفل واهتماماته، لتدخل قلبه بكل تواضع؛ محققة المتعة والفائدة.

مدونة وطن "eSyria" التقت بتاريخ 22 كانون الأول 2018، القاصة "أريج بوادقجي"، وعن بداياتها قالت: «لا أذكر تماماً متى بدأتُ الكتابة، لكن أذكر أنني كنت في الأيام الصيفيّة أعانق أوراقاً بيضاء، وأملؤها برسومٍ أو مذكرات تحاكي الواقعَ وتناقشه وتنقده، وأكثر ما كان يثير تحفّظي التناقضُ الاجتماعي والتمسّك بالعادات الباليّة بحجة التمسّك بالقيم والأخلاق، وكنت أعبّر حينَئذٍ عمّا في نفسي بأسلوبٍ فطريّ عفويّ، إما من خلال كتابة مواضيع التعبير، أو من خلال كتابة مسرحيات تمثّل على مسرح المدرسة، وكان لوالديّ بالغ الأثر في إغنائي فكرياً وعلمياً، وخصوصاً عندما كانا يتناقشان بمواضيع وأحاديث شتّى؛ سياسية واجتماعيّة وفكريّة، من دون الالتفات إلى أنّنا مازلنا في سنّ المدرسة».

لها دور في دعم الحركة الثقافية، لكن عليها ألا تقتصر في توجهها إلى النخبة ورواد المراكز الثقافية، على المثقفين والأدباء أن يكونوا بين الناس وفي أنشطتهم اليومية والحدائق والشوارع والأسواق، والأمر يندرج كذلك على أنشطة الأطفال، إذ عليها ألا تقتصر على مناسبات وأوقات وأماكن محدّدة، بل عليها أن تكون طقساً أساسياً من طقوس الأسرة

وتابعت قائلة: «أمضيت مرحلة الدراسة الإعداديّة والثانوية بين "حلب" و"جبال لبنان"، بحكم عمل الوالد، ولعلّ العامل المشترك بين المنطقتين هو الأصالة وجمال الطبيعة، الأمر الذي منحني صفاء ذهنيّاً وحبّاً للطبيعة والناس على اختلافهم. درست اللغة العربية في جامعة "حلب"، وقد اخترت هذا الفرع عن رغبة ومحبّة، فهو علم أصيل، ويضمّ بين طياته علوماً شتى كعلم النفس وعلم الجمال وعلم اللغة والفلسفة، هذه العلوم الاجتماعية التي تسحرني وتشدّني إليها دائماً، ولي الفخر أنني تتلمذت على أيدي أساتذة كبار، لهم سمعتهم على مستوى الوطن العربي».

من إحدى الورشات التدريبية في الأمانة السورية للتنمية

وعن تنوع مجالات الإبداع، قالت: «أثناء دراستي الجامعية نُشرت لي عدّة مقالات في صحفٍ محليّة آنذاك، لأنتقل فيما بعد إلى العمل في "دمشق"، واخترت الصحافة والإعلام لأتعرّف إلى هذه المدينة أكثر، وأندمج بنبضها أكثر وأكثر، فكتبتُ عدّة تحقيقات تخصّ المجتمع والثقافة والتنمية، وكانت كتاباتي تتسم بسمة النقد البناء الهادف المبني على أساس التوصيف واقتراح الحلول، وكانت لي فرصة اللقاء بعدة شخصيات أدبية ووطنية من "سورية" والوطن العربي، كالبطلة المناضلة "جميلة بوحيرد". لأنتقل فيما بعد للعمل في إدارة تحرير موقع "مدوّنة وطن"، لمدّة ثلاث سنوات، ولأتسلّم حينئذٍ الإشراف على المراسلين في عدّة محافظات سورية، الأمر الذي منحني القدرة على التعرف إلى الخصوصيّة السوريّة عن كثب، إضافة إلى إغناء خبرتي الإدارية والتحريرية».

وعن دخولها عالم الطفل قالت: «لعلّ المرحلة المهمة في حياتي كانت خلال عملي في "الأمانة السورية للتنمية" لمدّة ثلاث سنوات، وخصوصاً عندما عملت في المجال الإغاثي، ولامست احتياجات المجتمع السوري المتضّرر من الحرب، وخصوصاً الأطفال الذين عايشوا التهجير والعنف والخوف والجوع والفقر والانقطاع عن المدرسة، هؤلاء الذين خلعوا طفولتهم ليصبحوا كباراً بهمومهم وأمنياتٍهم وأفكارهم؛ الأمر الذي يجعلنا نوقن بأنّ برامج بناء القدرات والتوعية عليها أن تستهدف الصغار كالكبار، لأنّ الرضا النفسي عند هذه الفئة العمرية الطرية مضاعف. آمنت بأهمية العمل للطفولة السورية في هذه المرحلة، فانتقلت للعمل أمينة تحرير في مجلة "أسامة" العريقة، التي من خلالها دخلت عالم الطفولة من أوسع أبوابه؛ رسومُ وحكايات، سيناريو ومعارف، كلّها تربط الطفل بالكتاب والورق، وتكشف له جوانب وزوايا لم تتناولها الكتب المدرسيّة، وتحثّه على البحث والاكتشاف والمعرفة».

من نشاطات مجلة شامة

واستكملت حديثها بالقول: «في فنّ الكتابة كل شيء مكشوف وواضح للعلن، ليس هناك ما نخبئه في الأدراج، أرواحنا بسلبياتها وإيجابياتها تخرج من أجسادنا ليقرأها العشرات وربما المئات، ولعلّ التوجه إلى الطفل هنا أصعب، فالطفل لا يحتمل النفس المتشائمة أو المتملّقة أو الفقيرة، ولا يحتمل المعلومات المكررة المملّة، وفي الوقت ذاته يحتاج إلى من يوجهه ويقوّم سلوكه بأسلوب غير مباشر.

العمل للأطفال أمرٌ في غاية المتعة والصدق والشفافية، فالطفل لا يحتمل المجاملات أو الكلام النظري، الطفل يحتاج إلى من يقنعه ويتعامل معه بشفافية مطلقة واحترام لذاته وفكره، ولعل إدراكنا للطفل الساكن فينا هو أول مفاتيح الدخول والوصول إلى عالم الطفل؛ فليس كل كاتب قادراً على الكتابة للأطفال، فهذا النوع من الأدب من السهل الممتنع، يحتاج إلى عدة مقومات؛ أولها الحساسية الفنية والسلاسة الكلامية والروح الشفافة، والقدرة على استخدام اللغة بما يلائم مستوى الطفل ويلامس روحه وإحساسه، إضافة إلى تقديم المتعة والفائدة والقيم التربوية. كل كاتب يكشفُ عن أشياء من نفسه، وعاداته، وقدراته، وميوله، بالطريقة التي يستخدم بها اللغة، ويتناول بها الحدث، ويقدّم من خلالها الفكرة، والأسلوب هو النفس التي تهربُ إلى العلن، ولعلّ من أهمية كتاب الطفل بمكان، أن كتاب الأطفال هو الذي يغذي سرديّة الكبار، ورواية الكبار، إن كانت على مستوى فكريّ ومعرفي رفيع؛ يمكن العمل عليها أكثر لتصبح مناسبةً للصغار».

من نشاطاتها الثقافية

وعن إدارتها لمجلة "شامة" قالت: «بعد ثلاث سنوات من العمل في مجلة "أسامة"، تسلّمت رئاسة تحرير مجلة "شامة"، هذه المجلة الموجهة للأطفال من عمر 4 إلى 7 سنوات، ولعل هذه المرحلة العمرية تمثّل تحديّاً جديداً، ومسؤولية كبيرة ومضاعفة، هذه الفئة العمرية تطلب حساسية مضاعفة، وقدرة إبداعية ولغوية خاصة، إضافة إلى التحدي المحلي الذي نعيشه، فالطفل في هذا العمر ولد ونشأ وترعرع في مرحلة الحرب، هذه المرحلة الملأى بالتشويه الفكري والبصري والنفسي؛ الأمر الذي يستدعي التركيز على حاجات الطفل المعرفية والتربوية والجمالية والإبداعيّة والنفسية، وهذا كلّه يمكن أن يتم عن طريق الرسوم المنتقاة وفق معايير جمالية وفنية، ونصوص تحرص على تقديم المتعة والفائدة بلغة بسيطة وقريبة من الطفل».

وعن أعمالها الإبداعية قالت: «معظم كتاباتي للأطفال؛ أبطالها بشر، وتتناول هدفاً إنسانياً وفكرياً؛ الطفل بالنسبة لي طاقة كامنة وبذرة تكمن فيها الإمكانات والإبداعات ستزهر فرحاً وتفاؤلاً ونجاحاً وأملاً إن اعتينا بها على أتم وجه، فالأطفال هم استثمار، والإنجازات الاجتماعية والمعرفية والإنسانية التي سيحصلونها ستردّ على الأهل والمجتمع ككل. بالنسبة لكتاباتي للأطفال كتبت عدّة قصص نشرت في مجلات عربية ومحلية، إضافة إلى المواد العلمية والمعرفية التي تحث الطفل على البحث والتنقيب عن أسرار الحياة وطبيعتها. ولعل من المحطات الجميلة والمستمرّة حتى الآن، سيناريو "فصيحة" الذي ينشر كسلسلة في مجلّة "أسامة"، ومن خلاله أقدّم فوائد لغوية للأطفال بأسلوب طريف ومقرّب إلى الطفل. صدرت لي عدة كتب منها "فرصتي الذكية"، و"راعي الحروف"، و"قلوب صغيرة"، و"ملفوف يعود إلى صوابه"، و"لمن ستكون الهدية"، كما كتبت كتاباً لليافعين يتحدث عن سيرة وتجربة الفنان التشكيلي الدكتور "حيدر يازجي"، وهناك عدة كتب قيد الطباعة في دور نشر عربية».

وعن رأيها بالملتقيات الأدبية، قالت: «لها دور في دعم الحركة الثقافية، لكن عليها ألا تقتصر في توجهها إلى النخبة ورواد المراكز الثقافية، على المثقفين والأدباء أن يكونوا بين الناس وفي أنشطتهم اليومية والحدائق والشوارع والأسواق، والأمر يندرج كذلك على أنشطة الأطفال، إذ عليها ألا تقتصر على مناسبات وأوقات وأماكن محدّدة، بل عليها أن تكون طقساً أساسياً من طقوس الأسرة».

الأديب "موفق نادر" المطلع على أعمال "بوادقجي"، قال عنها: «تشبه الكتابة للأطفال مغامرة في عالم تكتنفه المخاطر والمفاجآت بأنواعها، فهي ليست لعبة نملأ بها أوقات فراغنا، كما توهّم كثيرون، بل إنّ على من ينبري للسير في هذا المدى العجيب أنْ يمتلك كثيراً من مزايا لا يعرفها سواه؛ أولها أن ينتعل خفّين من العشب الطريّ وخيالاً خفّاقاً بأحلام قُزحيّة، وبصيرةً قادرةً أن تكشطَ عن الأشياء المعتادة في الحياة ما لحقها من ترهّلٍ وصدأ الاعتياد، فيعيدها نضيرةً تُشعُّ ببريق أخّاذ، غير َما يحمل في عقله من ثقافة المعرفة وخبرة العيش، وفي وجدانه من حُبّ الطفولة وما في روحه من مرح وميل للعب وكشف جوهر الفرح وسط ركامٍ من عراك الكدح وضنك البقاء على وجه الحياة. وكم تسعد قلوبنا حين يولد بيننا مبدعٌ يمتلك بعض هذه السمات تؤهله لخلق نصٍّ معتبر ترنو إليه نفوسُ أطفالنا بشوق وتقرؤه عيونُهم بشهوة تضاهي نشوة متابعة الشاشات المضيئة التي أوشكت أن تُكمل سحبَ البساط من تحت أقدام آخر القراء من الصغار. دخلت "بوادقجي" ساحة الكتابة للطفل بثقة وخُطا ثابتة، فلفتت النظر إليها منذ نصوصها الأولى، حيث بدتْ قادرةً على خطاب الطفولة بمراحلها العمرية المختلفة، بما ينمُّ على فهمها لما هي مُقدمة على إنجازه من دون ارتجال أو استسهال، وأوّلُ ملكاتها اللافتة هذه الحساسية الفائقة لإدخال الفنيّ في العاديّ، وتشكيله من جديد ليصبح مفارقَةً تحمل إحدى القيم الرافعة نحو الجمال والخير. ولا عجب أن تتسلم موقعاً مهماً؛ رئيسة تحرير مجلّة للطفل تخاطب المرحلة العمريّة الأولى، مرحلةَ الروضة، بما لها من خصوصيّة تجعل المشتغلين فيها يستشعرون دوماً وكأنهم يسيرون على شفا الهاوية. وتمتلك "أريج" من عدّة الكتابة للأطفال ملامحَ كثيرة لا ينتظم هذا الصنفُ من الإبداع إلاّ بها؛ أولُها القدرة على تقمّص بنية الطّفل النفسيّة والمعرفيّة ليكون سلوكُه المجسَّد أدباً مقبولاً وغير ناشز عن كينونة الطّفولة، ثم الطَّراء اللغوي الذي يمكّن الكاتب من نسج الكلام يانعاً طازجاً غيرَ متداخل الدلالات والرؤى ليظل في حيّز البراءة والعفويّة، كما انتبهت إلى التعامل مع لعبة الأنسنة بهدوء لأنّ المبالغة فيها يوقع الكاتبَ في مطبِّ الجفاء عن المنطق والبداهة، وقد يجد الباحثُ المتمعّن ملامحَ أخرى لأسلوب هذه الكاتبة الشابّة، مع تمنياتي لها بمسيرة إبداعيّة حافلة بالعطاء الجميل».

يذكر، أن "أريج بوادقجي" من مواليد مدينة "حلب".