الهواة لا "المحترفون" هم عادة من يبدؤون فصولاً جديدة في أي إبداع جديد، وأصحاب أول فيلم سوري باسم "المتهم البريء" كانوا من هؤلاء، إلا أن التاريخ أنصفهم، فسجل باسمهم نقطة انطلاق السينما السورية الحقيقية.

تعود بدايات ظهور السينما في "سورية"، إلى عدة أعوام لاحقة على ظهورها العالمي في فرنسا، على يد الأخوين "لوميير" عام 1895، وقد ظهرت صالات السينما في "حلب ودمشق"، في العقد الثاني من القرن العشرين إلا أن الإنتاج السينمائي بقي ينتظر حتى عام 1928.

بعد أن بدأت صالات السينما تغزو "دمشق" لدرجة وجود عدة صالات في مدينة لم يكن كبيراً عدد سكانها وقتها، قام مجموعة من الشباب الدمشقيين بشراء جهاز صغير للتصوير السينمائي قياس 35 ملم، من طراز "كينامو" من "فرنسا"، وقرروا تصوير فيلم سينمائي، في ذلك الوقت انتشرت أفلام رعاة البقر الأميركية، و"طرزان"، وبعض الأفلام الفرنسية لـ "ماكس لاندر" الذي كان من أشهر الممثلين الهزليين في ذلك الحين، وقد لقي عرضها إقبالاً كبيراً من الناس، فهذا الفن الجديد، انتشر انتشار النار في الهشيم، في مجتمع لم يكن يعرف من أنواع الترفيه سوى السيران، واحتفالات الأعياد الدينية

تبدأ الحكاية كما يقول المخرج "مجد يونس أحمد " مدير مهرجان "خطوات" السينمائي، في حديث مع مدونة وطن “eSyria” بتاريخ 19 شباط 2014: «بعد أن بدأت صالات السينما تغزو "دمشق" لدرجة وجود عدة صالات في مدينة لم يكن كبيراً عدد سكانها وقتها، قام مجموعة من الشباب الدمشقيين بشراء جهاز صغير للتصوير السينمائي قياس 35 ملم، من طراز "كينامو" من "فرنسا"، وقرروا تصوير فيلم سينمائي، في ذلك الوقت انتشرت أفلام رعاة البقر الأميركية، و"طرزان"، وبعض الأفلام الفرنسية لـ "ماكس لاندر" الذي كان من أشهر الممثلين الهزليين في ذلك الحين، وقد لقي عرضها إقبالاً كبيراً من الناس، فهذا الفن الجديد، انتشر انتشار النار في الهشيم، في مجتمع لم يكن يعرف من أنواع الترفيه سوى السيران، واحتفالات الأعياد الدينية».

أثناء تصوير الفيلم، خاص الموقع

لم يكن لهؤلاء الشباب، أية خبرة في شؤون السينما، وقد اكتشفوا أن إنتاج فيلم سينمائي، يحتاج إلى عمليات فنية معقدة، لا خبرة لهم بها، عدا طبعاً عمليات التصوير السينمائي التي تحتاج إلى مصورين مختصين يعرفون كيف تدار الكاميرا، وزوايا الإضاءة، ومتى يعاد المشهد، أضف إلى ذلك ضرورة وجود قصة لكي تمثل، وممثلين لكي ينفذوا هذه القصة أمام الكاميرا.

يذكر "رشيد جلال" وهو من الرعيل الأول في السينما، في كتابه "قصة السينما في سورية"، أن الشباب الثلاثة هم: "أيوب بدري، وأحمد تللو، ومحمد المرادي"، وكان "بدري" أبرزهم وأكثرهم تعلقاً بهذا الفن الجديد، وقد كان "جلال" يملك كاميرا سينمائية قياس 9.5 ملم مع آلة للعرض ولوازم التحميض والطبع، واتفق مع الشباب الثلاثة أن يشاركهم العمل، فيصوره ويحمضه، على أن تؤسس شركة بين الأربعة سميت بالاسم القديم لجبل الشيخ "حرمون فيلم"، وهكذا كان.

أول شيوخ كار السينما في سورية نزيه الشهبندر

وللراحل "رشيد جلال" قصة نقلته من الهواية إلى الاحتراف، يقول الناقد السينمائي "جان ألكسان" موضحاً: "أنه أصبح محترفاً بعد أن أرسل مرة فيلماً عن زيارة الجنرال "سراي" ـ المندوب السامي الفرنسي وقتهاـ لدار الحكومة في "دمشق" لتحميضه، إلى شركة “Pathe” الفرنسية، وأعجبها الفيلم، فاشترته منه بمبلغ 150 فرنكاً، وهو مبلغ ليس بالهيّن في ذلك الوقت، وقامت الشركة بإدخال بعض أقسام فيلمه في الجريدة المصورة "باته بيبي غازيت" التي كانت تصدرها وتوزعها في العالم".

انتقل الجميع إلى التنفيذ العملي للقصة التي اختيرت، فتم اختيار قصة مستوحاة من قصة حقيقية، وقعت أحداثها في دمشق إبان حكم الملك "فيصل"، وهي قصة عصابة من اللصوص عاثت فساداً في أنحاء مختلفة من ضواحي "دمشق"، ولكن تم تحوير مسار القصة لإدخال العنصر النسائي في الفيلم، فبالتأكيد لا فيلم من دون "امرأة"، بتعبير الناقد "جان ألكسان"، وهو العنصر الذي سيتسبب لاحقاً للفيلم بكثير من المشكلات.

اتفقت الشركة الجديدة مع آنسةٍ تنتمي إلى إحدى عائلات "دمشق" المعروفة للقيام بالدور النسائي الأول، ولا تذكر المصادر ولا سجلات السينما اسم هذه الفتاة الشجاعة، وقد جاء بها حلاق للنساء اسمه "وديع شبير"، ومثل المذكور دور "المستنطق" في الفيلم، أي "المحقق" بلغة هذه الأيام.

كان لرشيد جلال نظرته السينمائية الواضحة، صحيحٌ أنه لم يدرس السينما، إلا أنه كان يعرف الكثير عن صناعة الفيلم، ويعرف أن الرغبة والحب وحدهما لا يصنعان ممثلاً ناجحاً، فلا بد من المعرفة، من هنا اختلف مع رغبة شركائه في التمثيل بالفيلم، ولم يقتنع أن من بينهم من يصلح للتمثيل، ولكن الشركاء أصروا على إخراج الفيلم إلى مرحلة التنفيذ.

وتم الاتفاق على تصوير الفيلم، على أن يمثل دور البطولة فيه "أيوب بدوي"، ويمثل الأدوار الأخرى زميلاه إضافة إلى عناصر من هواة التمثيل من خارج الشركة، وبوشر تصوير الفيلم أمام كهوف جبل "قاسيون"، وفي غرف الفنادق، وكانت عملية تقوية النور داخل الغرف تتم بواسطة عاكسات بيضاء لامعة، أما عملية تحميض السلبيات، فكانت تتم بلف الفيلم على أسطوانة خشبية كبيرة صنعها محلياً "رشيد جلال"، وأجريت عملية التركيب على الفيلم السالب، وأرسلت المواد بالتتابع إلى شركة "أكلير تيراج" وشركة (G.T.M) في فرنسا للطبع، مع إرسال العناوين والمحاورات، والتقاط صور ثابتة للفيلم.

استغرق تصوير الفيلم ثمانية أشهر، وبلغ طوله الكلي 800 متر، وقد عرض للتجربة أمام ممثلي الفيلم، وصاحب سينما "كوزموغراف" ـأمية فيما بعدـ "توفيق شماس"، واتفق على عرضه في هذه السينما، التي كان موقعها مكان فندق "سميراميس" الآن، ووضعت إعلانات وصور كثيرة على الجدران في "دمشق".

كانت المفاجأة الكبرى، حين تقدمت الشركة بطلب الترخيص للفيلم، فقد عُرض أمام موظفي الرقابة الفرنسيين، وجاء قرارهم بعد ثلاثة أيام، بمنع عرض الفيلم، بحجة واهية قالوا فيها: "إنه لا يجوز ظهور فتاة في الفيلم لأنها مسلمة وغير محترفة، ولأن رجال الدين في المدينة يحتجون على ذلك، ما يسبب إخلالاً بالأمن العام"، ورغم إبراز العقد الموقع منها للعمل في الشركة، ورغم أن سنها تجاوز الخامسة والعشرين، ورغم الوساطات المختلفة لدى السياسيين ورجال الدين، لم تقبل سلطات الانتداب عرض الفيلم بحالته الأولى، وطلبت إلى أصحابه تغيير المشاهد التي تظهر فيها الفتاة ووضع مشاهد تمثل فيها امرأة محترفة على أن تكون "غير مسلمة".

واضطر الشركاء على مضض، إلى قبول إعادة تصوير المشاهد التي تنوجد فيها الفتاة، وكان طولها أكثر من ربع الفيلم (270 متراً)، فتم استبدال الفتاة براقصة ألمانية اسمها "لوفانتيا" تعمل في ملهى "الأولمبياد"، وبدؤوا التصوير من جديد، وتم إرسال الأفلام السلبية الجديدة إلى "باريس" للتحميض، وهذا ما أخّر عرض الفيلم ستة أشهر.

كان التعطش لسينما "سوريّة" في ذروته، عندما بدئ عرض الفيلم في سينما "كوزموغراف"، فكان الإقبال عليه كبيراً جداً، لدرجة اضطرت رجال الأمن لإقامة حاجز على مدخل حي "البحصة"، لمنع الازدحام، وكانوا يسمحون بدخول الناس بالتتابع، وعندما تمتلئ الصالة بالرواد، يشرعون في تفريق الجموع باستعمال العنف أحياناً، وقد عرض الفيلم في معظم المدن السورية إضافة إلى "بيروت" و"طرابلس"، وكان صامتاً.

نجح الفيلم السوري الأول في ترك بصمته في تاريخ السينما، إلا أن الشركة لم تكمل في إنتاجها، فقد انسحب "رشيد جلال" من الشركة لعدم انسجامه مع الشركاء، وحلت الشركة، إذ لم يعد لدى أفرادها المال اللازم لشراء معدات لا بد منها لمتابعة الإنتاج، ولاحقاً تم إنتاج 7 أفلام من قبل قطاع الخاص حتى تأسيس مؤسسة السينما.

المصادر:

1- رشيد جلال، قصة السينما في "سورية"، المجلس الأعلى للعلوم والآداب، 1963م.

2- الكاتب والمخرج "جان ألكسان" في كتابه "تاريخ السينما السورية: 1928-1988" ـ ص 20 وما بعدها، منشورات وزارة الثقافة السورية، طبعة ثانية، 2012.