صنع المترجمُ والمدرّسُ الراحل "عبود كاسوحة" عالماً اجتمع فيه الكثير من الناس على اختلاف أعمارهم وأعمالهم واهتماماتهم، فأعطى من فضاء علمه ومعرفته بسخاءٍ ودون تكلف، وترجم الكثير من الكتب القيمة عن اللغة الفرنسية، ليحمل وسامَ "السعف الأكاديمية" الفرنسية برتبة فارس.

مدوّنةُ وطن "eSyria" وبتاريخ 4 شباط 2020 زارت العالم الذي صنعه المربي "عبود كاسوحة"، وتجولت مع العائلة في أركان الذكريات الجميلة مع الأب والمعلم والقدوة، والزوج المثالي، الذي قالت عنه زوجته "إيفلين كاسوحة": «ولد "عبود" عام 1938 في "القصير" بمحافظة "حمص"، بدأ المرحلة الابتدائية فيها وتابعها في أحد الأديرة اللبنانية، ونال الشّهادة الابتدائيّة اللبنانيّة التي مكنته من التّعلم المبكر للغة الفرنسيّة، ثم عاد ليتابع تعليمه متنقلاً بين "القصير" و"حمص" لينال الشهادة الثانوية في "حماة".

شاركت والدتي الوالد كل تفاصيل حياته وأعماله وكان لها النّصيب الأوفر بالقراءة الأولى لترجماته فقد كان يتلمس حساسيتها للغة، ويشير دائماً لدورها في تقويم ترجماته، أما مشاركتنا كأبناء فجاءت بعدها، فقد كنا نكثر من الحديث والنقاش في مضامين ترجماته أثناء العمل، وكنا نشعر أنّ أبطال رواياته وكتبه التي يترجمها يعيشون معنا ونشهد على ولادتهم بالعربية. لم يقف والدي عند تبحره بالكتب التي يترجمها، بل إنه لم يفوت أي فرصة تتاح له للقاء كتّاب ترجماته، وكثيراً ما كان يحظى باصطفائهم له لترجمة أعمالهم مثل الكاتب "آلان مينارغ"

التحق بجامعة "دمشق" كلية الآداب قسم الأدب الفرنسي، وبدأ تدريس اللغة الفرنسيّة بعد التّخرج في "معرة النعمان"، ثم عاد مدرساً في بلدته فأسس لجيل يعرف قيمة ما يتلقاه في مدرسته من علم ومعرفة وأدب وأخلاق، فحفظ الود وقدر الجهد الذي بذله "عبود" وشاركه الوصال حتى آخر أيام حياته».

إيفلين كاسوحة

وتتابع "إيفلين" الحديث عن "عبود" الصّحفي والمترجم، وتقول: «بدأت قصته مع الصحافة عند تأسيس جريدة "الثورة" عام 1963 عن طريق أحد الأصدقاء، فعمل في ترجمة مقالاتٍ ومنشوراتٍ فرنسيّة متنوعة، وأصبح واحداً من المحررين فيها، والتقى بعدد من أعلام الصّحافة في تلك الفترة أمثال "جلال الشّريف"، "جورج طرابيشي"، "هانرييت عبودي"، و"هاني الحاج"، إلا أنه وبحكم التزامه مع وزارة التربية كمدرس، توقف كمحرر، واقتصر عمله الصّحفي على ترجمة وكتابة مقالات متفرقة، وخاصة في صحيفة "العروبة".

أما عن التّرجمة فرغم بدايته معها مبكراً إلا أنها بدأت تأخذ شكلها الفعلي مع أول عمل أدبي ترجمه مشاركةً مع "ميشيل واكيم"، وهو رواية "الرحيل إلى أرض الجدة" للمؤلف "ويليام كامو" في بداية الثمانينيات، ثم أتت ترجمته لرواية "القانون" للكاتب "روجيه فايان"، وبعدها تتابعت الأعمال وكثرت لوزارة الثقافة التي قدرت جهده، فنال عام 2009 جائزة مسابقة "سامي الدّروبي" عن ترجمة رواية "أدريين موزيرا"، كما واكب نشاطات المركز الثّقافي الفرنسي، وشارك في الكثير من محاضراته و فعاليته، ويالمقابل كان المركز متابعاً لأعماله وخاصة ترجماته للأديب والفيلسوف "دنيس ديدرو" صاحب اللغة الصّعبة التي ابتدأها بكتاب "ابن شقيق رامو"، فعرضه على "أنطون مقدسي" مدير التّرجمة والتّأليف في وزارة الثقافة آنذاك، وحاز به على قمة إعجابه فمنحه الموافقة المفتوحة بترجمة ما طاب له من إنتاج "ديدرو" ليكون له مع هذه الأعمال مسيرة زاخرة تكللت بمنحه وسام "السّعف الأكاديمية" برتبة فارس من قبل الحكومة الفرنسية عام 2007.

رادا وروكسانا كاسوحة

أما نشاطه في اتحاد كتاب العرب كعضو في جمعية التّرجمة ومقرر لها لعدة دورات، فكان في الإعداد والمشاركة للعديد من النّدوات، ونشر المقالات، وكذلك في تحرير مجلة "الآداب" الأجنبية، وترجمته لعدة كتب أبرزها المؤلف الضخم "خديعة القرن العشرين" الذي أنجز بإشرافه ومشاركة مجموعة من زملائه المترجمين».

عن شغف المترجم والمدرس "كاسوحة" بـ"سورية" وتاريخها، وتوجهه نحو نقل عمق هذا البلد وصورته للخارج، ونشاطه في مجال السياحة، تقول ابنته المهندسة "رادا": «التحق أبي في عام 1994 بدورات وزارة السّياحة للأدلاء السّياحيين، وفي عام 1998 بنهاية عمله مع طلابه، بدأ نشاطه الفعلي كدليل سّياحي وهو المتمكن من وسائل التّواصل مع السّياح الفرنسين والأجانب النّطاقين بالفرنسيّة، فقدم بهذا العمل بموسمي الربيع والخريف من كل عام مبادرات استثنائية وصلت لحد استضافته لمجموعات سّياحية في بيته، ليطبع صورة الإنسان السوري ذي الحضارة العريقة، وكثيراً ما كانت المجموعات السّياحية تعود بفضله، وتطلب رفقته في جولاتها، أما عن نشاطه مع العائلة فقد أخذ طابعاً سياحياً ورياضياً ذلك إننا شاركنا كعائلة بأول فريق للمشي في "سورية" مع مجموعة من الأصدقاء، فزرنا معظم أرجائها مشياً».

الدكتورة فايزة نخلة

عن طيف الأسرة غير التّقليديّة والبعيدة عن رتابة الحياة وروتينها التي رسمها المربي "عبود" ليكون حاضراً في أدق تفاصيلها، تحدثت ابنته "روكسانا" خريجة الآثار والمتاحف، فقالت: «شاركت والدتي الوالد كل تفاصيل حياته وأعماله وكان لها النّصيب الأوفر بالقراءة الأولى لترجماته فقد كان يتلمس حساسيتها للغة، ويشير دائماً لدورها في تقويم ترجماته، أما مشاركتنا كأبناء فجاءت بعدها، فقد كنا نكثر من الحديث والنقاش في مضامين ترجماته أثناء العمل، وكنا نشعر أنّ أبطال رواياته وكتبه التي يترجمها يعيشون معنا ونشهد على ولادتهم بالعربية.

لم يقف والدي عند تبحره بالكتب التي يترجمها، بل إنه لم يفوت أي فرصة تتاح له للقاء كتّاب ترجماته، وكثيراً ما كان يحظى باصطفائهم له لترجمة أعمالهم مثل الكاتب "آلان مينارغ"».

طبيبة العيون وصديقة العائلة الدكتورة "فايزة نخلة" تراجع معنا ذكرياتها الجميلة مع "عبود كاسوحة" وعائلته فتقول: «عرفت الراحل "عبود" وأنا طالبة في مدرسة "القصير" الثانوية، فقد كان مدرس اللغة الفرنسيّة، تمنيته مدرساً لي لما سمعت عنه من زملائي، وهو المحب لطلابه، المواظب على مساعدتهم، يحب النّظام والنّظافة والاحترام والتّقيد بالمبادئ والأخلاق، أبعدتني دراستي الجامعيّة عن المدينة، ومع عودتي وزوجي بعد الدّراسة وجدته من أوائل المرحبين بعودتي، ولم يمنع فارق العمر من تأسيس أواصر صداقة حقيقية بيننا، فقد اجتمعنا على حبّ كل ما هو جميل وصادق بالفن والأدب والعلاقات الإنسانيّة، وكذلك حب المعرفة والثّقافة والمطالعة والدّفاع عن المرأة، فهو من أخلص المدافعين عنها.

أَحَبَّ كل شبر من تراب "سورية" وآثارها، واجتهدَ بالمد في ذكرها، والتّفاخر بها والمحافظة عليها، ونقل هذه المشاعر لكلّ من رافقه في رحلاتنا المشتركة، ومع جمعية "العاديات" في "حمص"، وإني وجدت فيه المعلم المخلص والصّديق الغيور على وطنه».

توفي المدرس والمترجم "عبود كاسوحة" عام 2013 تاركاً ما يقارب خمسةً وثلاثين كتاباً مترجماً، وبعد مرور أربعين يوماً على رحيله، أقامت عائلته حفلاً تجاوز التأبين التّقليدي، ووزعت نسخاً من أحد كتبه كما أرادت زوجته، وكتبت عبارةً واحدةً عليه (ليس بالخبز وحده يحيى الإنسان).