لا ينسى معمرو "حوران" حتى اليوم صورة "بوابير الطحين" التي انتشرت في الريف الحوراني، وكانت مقصداً للحاصدين الذين يتسابقون لحجز فسحة من الوقت لطحن محاصيلهم، وهمزة وصل اجتماعية يلتقي فيها أبناء القرى لتبادل أطراف الحديث وعقد الصفقات التجارية وتناقل الأخبار.

الحاج "محمود عزيزة" وهو موظف متقاعد تحدث لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 6 حزيران 2016، عن المتغيرات التي حدثت في المجتمع الحوراني منذ زمن بعيد، وقد عادت لتبرز العديد من الصور في حياتهم، ومنها "بوابير الطحين" التي كانت مكان طحن الحبوب، ويقول: «تعدّ المطاحن جزءاً من التراث الحوراني القديم، وكان مكان تجمع "بابور الطحين" يتم فيه طحن القمح وتحويله إلى طحين، إضافة إلى قيمته الاجتماعية وعبره يتم توصيل الأمانات إلى أصحابها، فما زال على الرغم من التطور الحاصل في عمليات الطحن يعيش في ذاكرة المواطنين ولاسيما المعمرون، وتنسخ الذاكرة الشعبية الكثير من صور البناء التي كان عليها مجتمعنا على الرغم من أنه لابد من الحفاظ على هذه الصور ربطاً لماضي الأجداد بحاضرنا، وكانت طبيعة القمح تمثّل فارقاً بطبيعة الحال بين طحين الأمس؛ حيث الحنطة البلدية الأصلية التي تمتاز بجودتها ونكهتها الفاخرة، وبين طحين اليوم حيث أنواع القمح قليل الجودة».

اعتمد الناس في "تكييل" عملية القمح ثلاثة أنواع لـ"المكاييل" في "الشوالات"؛ فكل واحد منها يتسع لخمسة من الصاعات يسمى "عشراوية"، و"الصاع" يتسع لنحو 16كغ من القمح، و"الربعية" وهي إناء أسطواني مصنوع من الخشب يتسع لنحو 2كغ، وسميت "الربعية" لأنها تساوي ربع الصاع، يليها في الحجم "النصمد" أو"النصف مدّ" وهو نصف برميل متوسط يتسع لنحو 8كغ من الحبوب سواء القمح أو الشعير على الرغم من قلة كثافة الشعير

الحاج "عبد الوحيد المقداد" أحد كبار السن في مدينة "بصرى" يقول أيضاً: «تعدّ "بوابير الطحين" تراثاً مهماً في "حوران"، فهي تؤرخ حياة الإنسان الحوراني الذي كان القمح مصدراً أساسياً لغذائه، وكان "بابور الطحين" يجمع عدة مهام اجتماعية، حيث كان إذاعة ومركزاً تجارياً وملتقى اجتماعياً واقتصادياً وصندوقاً للأمانات، وكان في "حوران" العديد من "البوابير" التي تعمل على المياه والديزل، منها "بابور الدخان" بمدينة "درعا" ويقع بنزلة البلد، ومطحنة "سامي جديد" في بلدة "غصم" تقع وسط البلدة بجانب "المدورة"؛ وهي بركة مشهورة، إضافة إلى مطحنة "دحدل" وتقع في بلدة "معربا" وسط البلدة، ومطحنتين بمدينة "داعل"، ومطاحن "تل شهاب" الكثيرة التي تعمل بواسطة دفع المياه المتساقطة من الشلالات والينابيع، حيث كانت تستخدم هذه الطريقة في طحن الحبوب قبيل استخدام وانتشار الطاقة الكهربائية أو محركات الديزل، وكانت طواحين "تل شهاب" تعمل على طحن حبوب مناطق "حوران وجبل العرب والكسوة وشمال الأردن والجولان".

"بابور" الطحين

كما جرت العادة أن يطحن القمح للحصول على الطحين من أجل الخبز، وأثناء العملية ترى عدداً من أكياس الخيش متراكمة بصف طويل، وكل ينتظر دوره، ويطلب الناس بين الحين والآخر من الطحان أن يدق الطحين للحصول على نوع ناعم، ويلحق بالبابور "الجاروشة" وهي آلة أقل حجماً من "البابور"، ومهمتها عمل "جريش" من القمح أو العدس، حيث يستخدم في كثير من الوجبات اليومية مثل: "الشيشبرك"، و"المقطعة"، و"الرشوف"، و"الجعاجيل"، وغيرها من الأكلات الشعبية التي كانت منتشرة وما زالت في "حوران"».

"إسماعيل العمار" وهو شاعر وكاتب يقول حول هذه العادة الاجتماعية: «لا يقطع إحساسك بتلك الرائحة الزكية، سوى أصوات "البابور" القديم الصاخبة ، لتذكرك بتلك الأيام التي كانت فيها مقصداً للحاصدين الذين يتسابقون لحجز فسحة من الوقت لطحن محاصيلهم في نهاية موسم الحصاد، حيث تمتلئ البيوت بالطحين بعد طحنها في "بابور الطحين"؛ التي تدار بالمياه أو الديزل، وهذه العملية حققت المتعة لدى الأطفال، وهم يشاهدون عملية الطحن، وتجمعهم حول "البابور" حيث كانوا يمنعون من الاقتراب منه، ولكنهم يغافلون الكبار ليجلسوا ويستمتعوا بالصوت الناتج عن دوران المحرك المتوالي.

محمود أكراد

وكان الطحان هو ذلك الشخص الذي كان يذهب باكراً من مكان سكنه بالحنطة على ظهور الدواب لندرة وجود وسائط النقل آنذاك إلى أقرب "بابور طحين"، إذ كانت هذه "البوابير" محدودة العدد ويقتصر وجودها على مناطق التجمعات السكانية الكبيرة، لذلك فإن من يسكن منطقة بعيدة كانت أو قريبة من "بابور الطحين"؛ عليه أن يقضي في بعض الأحيان كامل نهاره قبل أن يعود إلى مسكنه بعد أن يكون قد أنهى مهمته، وذلك لسببين؛ بُعد المسافة، وبطء سير الدواب المحملة بالأثقال ذهاباً وإياباً».

وعن "المكاييل" التي استعملها الناس يقول "محمود أكراد"؛ وهو من منطقة "درعا البلد": «اعتمد الناس في "تكييل" عملية القمح ثلاثة أنواع لـ"المكاييل" في "الشوالات"؛ فكل واحد منها يتسع لخمسة من الصاعات يسمى "عشراوية"، و"الصاع" يتسع لنحو 16كغ من القمح، و"الربعية" وهي إناء أسطواني مصنوع من الخشب يتسع لنحو 2كغ، وسميت "الربعية" لأنها تساوي ربع الصاع، يليها في الحجم "النصمد" أو"النصف مدّ" وهو نصف برميل متوسط يتسع لنحو 8كغ من الحبوب سواء القمح أو الشعير على الرغم من قلة كثافة الشعير».

الحجر المتحرك المركب بالمطحنة

وعن كيفية تشغيل "بابور الطحين" يقول "خالد عويضة"؛ وهو أحد المهتمين بالتراث الحوراني: «يدار "بابور الطحين" بقوة المياه التي تحرك دولاباً بـ"أقشطة" تحرك حجرين كبيرين مدورين بنفس القطر، أحدهما ثابت والآخر يتحرك بشكل دائري، حيث تفرغ الحنطة المراد طحنها في وعاء كبير على هيئة "محقان" يركب على سدة خشبية محكمة الصنع فوق الحجرين الكبيرين مباشرة لتصل الحنطة إلى ما بينهما، فيتولى الحجر المتحرك المركب فوق الحجر الثابت طحنها، وينزل الطحين من الأسفل ويعبأ في "الشوالات" وينقل إلى المنازل أو المضارب، ويقوم على تشغيل الطاحونة عدة أشخاص أهمهم "القعيدة"؛ وهو شخص يتولى إدارة شؤون الزبائن وترتيب أدوارهم في الطحن بحسب أوقات وصولهم إلى "البابور"، وتعبئة الطحين في الأكياس ومساعدة الزبائن في تحميله على الدواب لنقله إلى حيث يسكنون».