لم يتوقع أبناء "دير الزور" في أسوأ كوابيسهم، أن تخلع مدينتهم جسورها التي ارتداها "الفرات" وتلحّف بها عقوداً طويلة من الزمن؛ فـ"الجسر المعلق"، و"جسر السياسية"، و"الجسر الحربي"، وكل جسور الريف لم تبقَ واقفة لتروي عن تلك الأيام، لكن الراوي الأقدم والأعرق، ما يزال منتصباً فوق "الفرات"، ومع أن اسمه تبدّل كثيراً، بقي الاسم الأكثر تداولاً وقرباً من الناس؛ "الجسر العتيق".

مدونة وطن "eSyria"، تواصلت بتاريخ 10 آذار 2017، مع موثّق تاريخ "دير الزور" السيد "عباس مهجع"، وسألته عن نشأة وتاريخ "الجسر العتيق"، فبدأ كلامه بالقول: «مرّ الجسر بعدة مراحل حتى وصل إلى شكله الأخير، كما أطلق عليه عدة أسماء أيضاً، وهو يعدّ من أقدم الجسور في "سورية"، وأقدمها في "دير الزور". وكانت بدايته مع ما دُعي بجسر "الأطواف الخشبية" المشغول من ترابط الأخشاب وجذوع الأشجار بعضها ببعض ما بين الضفتين، ثم ربط طرفي "الأطواف" بضفتي الشاطئين المتقابلتين، فأصبح هناك جسر خشبي يحمل المشاة، حيث إن المسافة بين الضفتين على "الفرع الصغير" للنهر تسمح ببناء مثل هذا الجسر، وكان جسراً بلا جوانب أو دعائم أو ركائز في سرير النهر، وكان مخصصاً لعبور الأشخاص فقط، ولا تستطيع قوافل الجمال العبور فوقه».

لا يختلف "جسر البعث" عن "الجسر العتيق"، باستثناء انحسار أكبر للمياه عن الضفتين، واعتماده على دعامتين إسمنتيين فقط

يتابع "عباس": «كان جسراً بسيطاً، ينقطع كلما فاض النهر، فتتناثر أخشابه فوق الماء، وتنقطع الضفتان إحداهما عن الأخرى، ثم يقوم الناس بجمع أخشابه من جديد وترميمه.

صورة قديمة للجسر

يضيف "عباس": «هذا الجسر، كان موجوداً منذ فترة حكم الأهالي والعشائر لـ"دير الزور"؛ أي قبل عام 1831. وبعد مجيء حملات الاحتلال العثماني، قام العثمانيون عام 1860 بتطويره، فدعموه بالحديد من الأسفل، واستبدلت الحبال التي تربط جذوع الأشجار بأخرى تشبه حبال الخيام الكبيرة، وربطت الجذوع بطريقة متماسكة ومتناسقة، مع تبديل أخشابه كل مدة معينة، مع دهنها بمادة عازلة للماء لحمايتها من تسرب الماء قدر المستطاع.

وفي عام 1897، بنى العثمانيون ركائز خشبية داخل سرير النهر، مع استبدال الأخشاب التي كانت من شجر "الحور" و"التوت" بخشب "الجوز" الملبس بخشب "الحور"، مع رصف جديد ومنظم. وفي عام 1895، تم تطويره عبر إضافة القواعد الخشبية القوية داخل النهر، فصارت الجمال تعبر فوقه إلى الضفة الأخرى».

عباس مهجع

أما المرحلة التي أطلق عليه فيها اسم "الجسر العتيق"، فكانت -حسب "عباس"- المرحلة الثالثة، ولقّب بالـ"عتيق"، لقربه من منطقة "دير العتيق"، التي كانت موجودة في ذاك الزمان.

وتابع "عباس": «الفرنسيون هم الذين شيّدوا "الجسر العتيق"، بين عامي 1928 و1932، بثماني ركائز من الإسمنت المسلح، واستبدلوا أرضيته الخشبية بأرضية إسمنتية مسلحة أيضاً، فصارت الجمال والإبل تعبره بكثرة من دون خوف.

نجيب لطفي

كما تم رفع قواعد الجسر الإسمنتية بفارق متر ونصف المتر عن سطح الجسر الخشبي السابق؛ وذلك خشية الفيضانات. وتذكر المعلومات التاريخية أنه بعد جلاء الاستعمار الفرنسي، تم تعريضه وتجميله وتنويره بالكهرباء عام 1955.

وبلغ طوله آنذاك 78 متراً، بعرض 8 أمتار، وعرض الرصيف متر ونصف المتر».

وفي عام 1990، ونتيجة خطأ فني خلال تنفيذ مشروع تبليط "الفرع الصغير"، انهدم الجسر من إحدى جهتيه، وحزن الناس كثيراً في "دير الزور"، ووثقت الحادثة بالشعر والأغاني، فكانت المرحلة الأخيرة له، وهي مرحلة جسر "البعث"، التي قال عنها "عباس": «لا يختلف "جسر البعث" عن "الجسر العتيق"، باستثناء انحسار أكبر للمياه عن الضفتين، واعتماده على دعامتين إسمنتيين فقط».

وللجسر "العتيق" -كما ذكرنا- قيمة عاطفية كبيرة لدى أبناء "دير الزور"، فعنه يقول السيد "نجيب لطفي"، وهو في السبعين من العمر: «له خصوصية كبيرة لدينا، فقد كان القلب النابض للمدينة، وعقدة الانتقال بين شطري المدينة للعمل أو التنزه، وخصوصاً في المساء عندما نذهب مع الأهل والأصحاب إلى المطاعم "الجراديق" الواقعة على ضفة النهر، ودوماً في طريق العودة، كانت تحتدم نقاشاتنا فوقه، فنقف في وسطه، وكأننا لا نريد تركه.

أما الشباب، فكانوا في وقت انصراف المدارس الواقعة في الجهة الثانية، يجلسون على رصيف قهوة "عصمان بيك" الواقعة على طرف الجسر تماماً لانتظار حبيباتهم».

يتابع "لطفي": «شخصياً كان الجسر "العتيق" طريقي اليومي الإجباري عندما كنت موظفاً في شركة "دير الزور للنفط"، كنت أراقب الجسر والعابرين فوقه دوماً، مثل الريفيات وما يحملنه من حليب ولبن وجبنة، والكثير من السلع التي يبعنها في أسواق المدينة.

إنها ذكريات لا يمكن للغربة أو الزمن أن يجعلاني أنسى تفاصيلها الجميلة، وأخشى اليوم أن ينسى الجيل الجديد الجسر "العتيق"، وبقية تفاصيل مدينتنا الجميلة».

يذكر أنّ الموثّق "عباس مهجع" حصل على المعلومات التاريخية عن الجسر "العتيق" من كتب للباحث "أحمد شوحان"، وروايات شخصية للسادة: "ماجد فياض"، و"غزوان حرويل"، و"طارق اليوسف".