إعاقته الحركيةُ لم تثنه ولم تقلل عزمه، والتي كانت نتيجة مرض أصابه، وهو نقص تروية الأطراف أو كما يُسمونه الأطباء داء "بيرغر" الذي أفقده بعض أطرافه، وما تبقى منها يطوّعُها حسبَ حاجتهِ، ليستمرَ معها، ويستمرَ مع الحياةِ دونَ أنْ يكترثَ لها أو يعتبرَها إعاقةً، فلم يستكنْ ويستسلمْ للمرضِ، بل تحداهُ، وبرغمِ أنهُ فقد ثمانينَ بالمئةِ من أطرافهِ إلا أنهُ بقيَ في دائرةِ عملهِ ينتجُ أدباً وشعراً، ويبدعُ في مجالهِ الصحفي ومن عزيمتهِ وإرادتهِ يستمدُ كلُّ من يعرفهُ معنىً آخرَ للحياةِ.

إنه "خالد جمعة".

مدونةُ وطن "eSyria" بتاريخ 17 تموز 2019 التقت الشاعرٌ والأديبٌ والصحفيٌ في جريدة "الفرات" "خالد جمعة" فبدأ حديثه بالقول: «أتعايش مع ما أصابني بشكل طبيعي، وهو مرض نقص تروية الأطراف أو كما يُسمونه الأطباء داء "بيرغر"، والذي يؤدي إلى فقدان بعض الأطراف، وأعدّ الإعاقة هي إعاقة الأخلاق، إعاقة العقل، إعاقة التفكير، إعاقة التعامل مع الآخرين، فليس هناك إعاقة تمنعك من الاستمرار بالحياة، صحيح أنّ الحركة مقيدة بعض الشيء في قضاء احتياجات الحياة، إلا أنّني استطعت أن أطوعَ ما تبقى من طرفيّ العلويين حسب حاجتي، وحسب ما يقتضيه كل موقف من المواقف التي تعترضني، وخاصة في السوق أو عند تأمين مستلزمات المنزل، لم أستسلم للمرض يوماً، بل شكّل لديّ حافزاً من أجل العطاء أكثر حتى يستفيد الآخرون من تجربتي، وكلما كان هناك استفادة، كان هناك إصرارٌ وقوة وعزيمة استمدها، كثيرون من استفادوا من إرادتي التي امتلكها، ولا أنسى أنّهم يستوقفوني في الشارع حتى يؤكدوا لي ذلك، وهناك ممن ليس لديهم أي إعاقة يستوقفوني حتى يؤكدوا لي أنهم برغم ذلك فإنهم يستمدون مني الإرادة، وهذا بحد ذاته مبعث فخر لي، لأنني أثرت في المجتمع ناهيك عن عملي الذي أقوم به، ووجود الأصدقاء المحبين حقيقة، كل ذلك يجعل حياتي طبيعية وبشكل اعتيادي وكثيراً من الأحيان أنسى إعاقتي تماماً، وأتصرف كأنني بلا إعاقة».

"خالد جمعة" إنسان نتعلم منه الإرادة القوية، فهو مدرسة يعلم الآخرين، ووضعه الصحي لم يثنه عن ممارسة حياته اليومية، فتجده في كل مكان في النشاطات والفعاليات وفي الصحيفة، وهو إنسان واعٍ وشاعر مبدع، وصحفي ناجح محبوب من الجميع دون استثناء

ويضيف: «الحمد لله الذي أنعم علي بوجود أصدقاء حقيقيين يقومون بمهام عدّة، ويساعدونني في الأمور كلها، وهم خير الأصدقاء وأروعهم، لأنهم يتفهمون حالتي بشكل كامل، ولأنهم يتمتعون بالوعي الكامل الذي يؤهلهم تماماً لاستيعاب حالتي. ما أزال أكتب الشعر، وصدر لي ديوان في العام 2017 بعنوان: "وتبقى الأغصان" وفي العام 2019 صدر لي ديوان آخر يحمل عنوان: "هكذا غنّى الفرات" وهنا أتوقف لأضيف: إنّني نهلت العطاءَ من "الفرات"، لذلك أحاول دائماً أن أعطيه المزيد، ولهذا مهرتُ عنوان مجموعتي الشعرية الثانية بـ "الفرات"، وهناك علاقة غريبة بيني وبينه، علاقة تبادلية تشاركية حتى أن أي فكرة تنتابني تذهب إليه، تستلقي على شطآنه، وتداعب أغصان الغَرب والزيزفون».

خلال العمل

يتابع "جمعة": «الكتابة في الصحافة تستحوذ على تلابيب حياتي ويومي، وما زلتُ أكتب، وهذا هو العقد الثاني الذي أقضيه في عالمها الذي أهواه حقيقة، وخاصة الصحافة الثقافية التي تخصصتُ وعرفتُ بأروقتها، إضافة إلى الصحافة الاجتماعية والمحلية والحالات التي تستهوي أعين الصحفي، أنظر بحكم معرفتي وقراءاتي إلى تجارب الآخرين في مجال الأدب والفن، فألقى تجارب أخرى أبدعت وأثرت في الحياة الأدبية والفنية مثل "طه حسين"، و"بيتهوفن"، و"روزفلت". هؤلاء أثروا في المجتمع ومن تجاربهم تعلمت الكثير، وذلك عندما أبحرت في تفاصيل حياتهم، وقرأت نتاجهم الفكري، وهنا - بدأت أستفيد - ومع ما امتلك من إرادة عادت حياتي إلى طبيعتها تماماً، فأنا أرفض كلمة "معاق"، ربما أتضايق منها في بعض الأحيان، لكنني أعرف أنّ المجتمع هكذا يعرفها فلذلك لا توقف عزيمتي، وأتهرب منها، بل أداعبها بشيء من اللطف حتى لا تثقل علي وأتقوقع داخلي منفرداً حيث العزلة والتفكير».

وعن استمرار التواصل مع مفردات الحياة قال: «الانطواء، العزلة، الابتعاد عن المحيط كل ذلك يؤثر بشكل سلبي في نفسية أي شخص وخاصة إذا كانت الإعاقة موجودة، ولذلك كان علي أن أبادر إلى الانخراط في المجتمع حتى أبتعد كلياً عن كل ما يعترض سير حياتي، وأن استبدلها بالضحكة والابتسامة والتسامح، هنا أجد نفسي، أجد "خالد" الذي أعرفه، فأنا متصالح مع نفسي كلياً، ومتصالح مع المجتمع ومع ظروف الحياة القاسية، انظر إليها متفائلاً، فكل شيء يمكن أن نتجاوزه إلا عدم الوعي وفهم الآخرين. وفي سير حياة أي شخص، هناك منغصات تعترضه، وتصيبه وتقلل من عزمه ومن نفسيته، لكن هل نقف عندها ونستسلم؟ّ بالتأكيد الجواب لا، وحتى نتواصل مع الحياة يجب دائماً أن نبحث عن جديد، والجديد عند أي إنسان أن يطوّع كل شيء بما يخدمه، وهذا ما قمتٌ بفعله على أرض الواقع، دائماً أبحث عن جديد، عن شيءٍ أثبت فيه نفسي أثبت فيه "خالد جمعة" الإنسان الصحفي الشاعر الكاتب حتى أنظر إلى الآخرين بتلك العين التي طالما كنت أنظر بها، وهي عين المحبة والتسامح، كل المحبة والتقدير لكل أولئك الذين وقفوا إلى جانبي، ونسوا إعاقتي كلياً، فلولاهم لما تغيرت مفاهيم كثيرة أوردتها في متن حديثي السابق. و شكراً لكم ولاهتمامكم ولأنكم فتحتم لي مساحة للحديث عما يجول في داخلي».

فراس القاضي

عنه يقول الصحفي "عمار كمور": «"خالد جمعة" إنسان نتعلم منه الإرادة القوية، فهو مدرسة يعلم الآخرين، ووضعه الصحي لم يثنه عن ممارسة حياته اليومية، فتجده في كل مكان في النشاطات والفعاليات وفي الصحيفة، وهو إنسان واعٍ وشاعر مبدع، وصحفي ناجح محبوب من الجميع دون استثناء».

زميله "فراس القاضي" قال عنه أيضاً: «كنا زملاء أنا و"خالد" لسنوات في صحيفة "الفرات في "دير الزور"، وكانت عوارضه الصحية كثيرة، لكن من المستحيل تقريباً أن يصدّق من يراه أنّ هذا الرجل هو صاحب هذه العوارض الصعبة، كنت أراقب فيه أمرين بإجلال كبير، تناقص أطرافه وزيادة ابتسامته، وكأنّ "خالد" قرر ربط الأمرين ببعضهما البعض، شخصياً لم أرَ شخصية استطاعت تجاوز مشكلتها كما فعل "خالد"، والأجمل أنّه يزداد نشاطاً بعد كل عارض، فإن كنت تراه في مكان واحد، ستراه في مكانين أو ثلاثة يحمل عدته الصحفية بما تبقى من يديه وقلبه ليصيغ مواده وخواطره وأشعاره ويرسلها إلى النشر، "خالد جمعة" مثال لحبّ الحياة.. بل هو من رسلها».

يذكر أنّ "خالد جمعة" من مواليد "دير الزور" عام 1970، حاصل على شهادة معهد إعداد المدرسين عام 2002.