يعدّ المشوار على طريق "الكروسة" من تقاليد سكان منطقة "السقيلبية" التي دأب أهلها على جعل منطقتهم نبعاً لا ينضب من الجمال والسحر، فنال الطريق حصته الوافرة من الحب والعشق والصيت الرائع.

مدونة وطن "eSyria" تواصلت مع الفنان التشكيلي والموثق "غيث العبد الله"، الذي حدثنا عن "الكروسة" أو "la carrosse"، التي تعدّ من أقدم شوارع "السقيلبية"، حيث قال: «لم تكن الصبية تحتاج أكثر من إفراغ ماء جرتها في الطريق، كي تعود راجعة لتملأها مجدداً من ماء "عين الورد"، وتحظى بنظرة عابرة أخرى من حبيبها الذي ينتظر مجيئها مع رفاقه على ضهر العين، فقرب "عين الورد" شرقي القرية كان المكان الوحيد لتلاقي النظرات العاشقة، فكان يحلو لشباب القرية قديماً أن ينتظروا قرب العين، أو يصطفوا على جانبي الطريق المؤدي إليها لاستقبالهنّ والعيون ترقب خلسةً من بعيد».

لم تكن الصبية تحتاج أكثر من إفراغ ماء جرتها في الطريق، كي تعود راجعة لتملأها مجدداً من ماء "عين الورد"، وتحظى بنظرة عابرة أخرى من حبيبها الذي ينتظر مجيئها مع رفاقه على ضهر العين، فقرب "عين الورد" شرقي القرية كان المكان الوحيد لتلاقي النظرات العاشقة، فكان يحلو لشباب القرية قديماً أن ينتظروا قرب العين، أو يصطفوا على جانبي الطريق المؤدي إليها لاستقبالهنّ والعيون ترقب خلسةً من بعيد

أما عن طريق "الكروسة" تاريخياً، فقال: «في مطلع الأربعينات، قررت الجهات الحكومية آنذاك إيصال الطريق العامة القادمة من مدينة "حماة" إلى قرية "السقيلبية"، فكان ما عُرف بـ"الكروسة"، وهي كلمة فرنسية تعني العربة الفاخرة التي تجرها أربعة جياد، فاندفعت الصبايا للعمل في رصف الطريق، ونقلن الحجارة المتوضعة على جانبي المكان من قرية "الكرامة" اليوم وصولاً إلى آخر شارع "عدنان المالكي" حالياً الذي ينتهي غرباً مع الطريق المؤدية إلى مدينة "أفاميا"، ومستديراً حول مدخل "السقيلبية" الغربي، فموازياً لمحطة الوقود لورثة "صبري فرحة"، مروراً من أمام ما عُرف بمنطقة "عز الدين" مقابل مكتب الحبوب حالياً، لتتابع السير من أمام دائرة البريد وابتدائية الشهيد "سليم حداد" ودائرة الخدمات الفنية، وجادة "يوسف العظمة"، ثم السوق الرئيس حالياً حتى النهاية».

غيث العبد الله

أما عن المواد المستخدمة، فقال: «رُصفت "الكروسة" بنوعين من الحجارة متباينة الحجم، الكبير منها يُدعى "ردش"؛ أي تستطيع قبضة اليد ضمه، أما الأصغر، فيدعى "جمش"، ومنها جاء المثل القائل: (الجمشة بتسند حيط)، وقد غرست الحجارة في بطن التربة الموحلة بتراصٍ متين من قبل رجال امتهنوا ذلك لتتماسك بصلابة، واستمر العمل فيه مدة ثلاث سنوات في الخريف والشتاء من كل عام، وانتقلت إليها التجمعات والأنشطة الشبابية والمشاوير عند الغروب بعد أن كانت تقتصر على طريق العين فقط».

وأضاف: «كان الطريق الأساسي والحيوي يقسم "السقيلبية" إلى قسمين: غربي، وشرقي يبدأ صعوداً من طلعة "القبو" أو طلعة "الكنيسة" فيما بعد، وقد تفرع عن السوق التجاري الأول والوحيد فيها عند سفحها الجنوبي ليتابع صعوده شمالاً، ويمر من أمام كنيسة "جاورجيوس"، ثم يتصل بطريق ضيقة نسبياً تتجه شرقاً تسلكها النسوة في ذهابهن إلى "عين الورد" لملء جرارهن، وقبل وصوله هذا يتفرع عنه فرعين؛ الأول يمر من أمام دار الشيخ "إلياس العبدالله" شرقاً، والثاني غرباً باتجاه دار أخيه الشيخ "سعيّد العبد الله"، ثم إلى مدرسة "المعارف" أو مدرسة "التل الغربي" أو دير "رقاد السيدة"، وعلى الرغم من أن طريقين آخرين كانا يؤديان إلى القرية المتربعة على تلٍ عالٍ، لكنهما لم يكونا بحيوية وأهمية الطريق المذكورة التي تبدأ أول طلعة "القبو"، وقد كانت بمنزلة المدخل الرئيس للقرية، حيث يسلكها عادةً الضيوف وأهل البيت معاً، وحين امتدت جادة "يوسف العظمة" باتجاه الشرق لتصل طريق "حماة" بقلب المدينة في أواخر الثمانينات، أزيل آخر ما بقي في "الكروسة" من حجارة والتربة المعجونة بتنهدات الصبايا وعرقهن، بعد أن مشت عليها خيول "إبراهيم هنانو" والشيخ "صالح العلي" ورفاق الشهيد "يوسف العظمة" لتستقبلهم "السقيلبية" وأهلها بالدعم والموالاة. وبعيد منتصف التسعينات ازداد الضغط على الشباب من قبل هيئات حكومية ووقفية كي ينقلوا مشوارهم إلى شارع "بيت برو" تفادياً لحوادث السير التي يمكن أن تسببها حالات الازدحام الكثيفة للسيارات والحافلات الثقيلة العابرة، وانتقل بعض الشباب صغار السن انتقالاً خجولاً تلك المدة إلى شارع "بيت برو"، والشباب الأكبر نسبياً نقلوا مشوارهم على مضض وتحت الضغط الأهلي باتجاه الشرق على ذات الشارع أمام مكتب "القدموس" حالياً، وبقي الوضع هكذا حتى تم الانتقال النهائي للمشوار إلى حيث هو اليوم في شارع "بيت برو" بعد عام 2002».

الكروسة أثناء أحد الاحتفالات

"ميخائيل دويب" من سكان "السقيلبية"، حدثنا بالقول: «يمثّل شارع "الكروسة" أو ما يعرف حالياً بشارع "المشوار" بجماليته وخصوصيته ذاكرة تراثية، لتحول "السقيلبية" من قرية إلى مدينة تقدم خدماتها لمعظم القرى المحيطة، وبإمكانك أن تدرك حجم الجهد الكبير الذي بذله سكانها لتطوير منطقتهم من خلال عمل المرأة قرب الرجل، وتلاحم المجتمع الأهلي لتكون "السقيلبية" هي الأجمل، وتقام فيه اليوم معظم الفعاليات والأنشطة المتنوعة ويعدّ وجهة لكل من يرغب بالتعرف إلى "السقيلبية" عن قرب».

الكروسة قديماً