مئة وثلاث سنوات لم تمنعها من ممارسة هوايتها في الخياطة، ولم يخنها بصرها في إدخال الخيط في ثقب الإبرة، وما زالت تروي ذكرياتها كقصص جميلة لأحفادها، وهي العزباء التي مارست الأمومة بتربية أبناء وأحفاد أختها.

مدونة وطن "eSyria" التقت بتاريخ 27 تشرين الثاني 2018، المعمّرة "تميمه محمود زينو" في منزلها بقرية "تلدرة" التابعة لمدينة "السلمية"، لتتحدث عن طفولتها وعملها، فقالت: «توفيت والدتي وأنا بعمر الرابعة عشرة؛ كان والدي متطوعاً في الدرك، ويحتاج إلى من يهتم بشؤونه عندما يأتي من عمله، حبي وتعلقي بأفراد أسرتي جعلني أرفض الزواج، وأنذر نفسي لتربية إخوتي، وأعتني بأبي حتى تزوج بامرأة أخرى. كانت الطفولة والحياة قاسية في ذلك الوقت، وليس هناك ذكريات جميلة عالقة في الذاكرة، فالوضع المادي للناس كان سيئاً للغاية، ولا توجد مظاهر فرح، لكن كانت البساطة والمحبة والتعاون قائمة أكثر من هذه الأوقات.

هذا "نبيل" وهو طفل صغير، وكنا نقطن في محافظة "درعا"، ببلدة "المزيريب" بحكم عمل زوج أختي. وهنا في عام 1982 حدث السيل الكبير الذي شكل قناة مرت تحت بيتنا، ومن كثرة الأمطار خربت سطوح منازلنا

لقد مارست أمومتي من خلال ملازمة أختي "صالحة" التي أكبرها بخمسة عشر عاماً، فرافقتها حتى بزواجها، وقمت بتربية أبنائها الأحد عشر؛ وهم ستة شباب وخمس بنات، وربيت فيما بعد أولادهم أيضاً، وهو أمر كان ولا يزال يسعدني، ويلقي على روحي الرضا والسكينة».

صورة من ذكرياتها القديمة

وعن الأعمال التي قامت بها خلال حياتها، قالت: «قمت بأعمال عديدة ومتنوعة، مثل: الحصاد بالمنجل، وسرب البصل، وقطاف القطن، وصنع قطع الطين لبناء المنزل، وتلييس البيت بالطين، ورعي الأغنام، وصناعة الأجبان والألبان، وخبز التنور، وجمع الحطب والطهو عليه، وصناعة "الجلة" للتدفئة، وهي تصنع من مخلفات روث الحيوانات، لتصبح وقوداً للنار في الشتاء. لم أتأفّف من عمل شيء، فالحاجة للعمل كانت تقضي بأن أصحو باكراً وأنام باكراً، فهناك أفواه بحاجة إلى الرعاية والطعام».

وتابعت عن أعمال أخرى ما برحت تمارسها حتى وقت قريب: «كنت خياطة ماهرة، وتقاضيت عن أول ثوب صنعته عشرة قروش سورية، وما زلت أخيط بعض الأشياء بالإبرة اليدوية، مثل: "النزالات، المضربيات"، وأدخل الخيط بثقب الإبرة من دون استعمال نظارة أو مساعدة أحد».

صورة الهوية

وعن الأحداث المميزة التي شهدتها وما زالت عالقة في ذاكرتها، قالت: «شهدت "ثلجة الأربعين"، وأذكر أن والدي انزلقت قدمه وهو يفتح طريقاً للخروج إلى الشارع، حيث دام سقوط الثلج أربعين يوماً، لكن مؤونة البيت كانت كافية لإبقائنا أحياء، حيث اعتدنا تخزين البرغل والقمح والطحين والعدس والحمص والسمن البلدي وزيت الزيتون، وهي ما كانت تبقينا أحياء من دون الحاجة إلى الخروج من المنزل.

وأذكر أيضاً مشاركة ابن اختي البكر "نبيل" في حرب "تشرين"، كنت متعلقة به كثيراً، ولقد بكيت خوفاً عليه من أن يصيبه مكروه، وأقضي الليل في الصلاة والدعاء ليعود سالماً، حتى انتهت الحرب وعاد بخير».

أمل ليلى

تحتفظ المعمّرة "تميمه" بعلبة معدنية صغيرة في خزانتها، وهي بمنزلة كنوزها التي تحكي قصصها وذكرياتها مع بعض الصور، وقالت: «هذا "نبيل" وهو طفل صغير، وكنا نقطن في محافظة "درعا"، ببلدة "المزيريب" بحكم عمل زوج أختي. وهنا في عام 1982 حدث السيل الكبير الذي شكل قناة مرت تحت بيتنا، ومن كثرة الأمطار خربت سطوح منازلنا».

وعن غذائها والأمراض التي تعاني منها، قالت: «أتناول بوجه أساسي اللبن المصفى، والزيتون، و"الشنكليش، والعطون"، والجبن، وزيت الزيتون إذا توفر، ولا أتناول الحلويات إلا ما ندر. ولا أعاني من أي مرض إلا الضغط؛ وأتناول الدواء اللازم منذ عشر سنوات، وخسرت أسناني منذ ثلاثين سنة».

وأضافت: «كنت مواظبة على الخروج من المنزل، والقيام بصلاة الجماعة حتى عام 2017، والأن أخرج قليلاً خوفاً من الانزلاق في الشتاء، حيث تقوم ابنة أختي بالعناية بي، وبوالدتها المريضة، وهي التي تقوم بالعناية بنا وشراء حاجياتنا والصرف علينا من راتبها».

"ابتسام جوهرة" من مواليد عام 1961، كان قدرها كقدر خالتها، وقالت: «لم أتزوج أو أنشئ عائلة كبقية الفتيات بسبب حاجة أمي وخالتي "تميمه" إليّ، فأنا أهتم بهما، خاصة أنهما كبيرتان في السن وبحاجة دائمة إلى وجود أحد بجانبهما. لقد تقاعدت من معمل الغزل، وأتقاضى راتباً ضئيلاً لا يسد إلا القليل من الحاجات، لكن أمي وخالتي تغفران لي. أعدّ خالتي "تميمه" أمي الثانية، وعلى الرغم من أنها أكبر من والدتي بخمسة عشر عاماً، إلا أنها أقوى منها بكثير، وصحتها جيدة، وما زالت قادرة على السير والتنقل. لقد تعبت كثيراً في حياتها المديدة، وربت أجيالاً ابتداء من أشقائها، وانتهاء بأبنائهم، وتسأل دائماً عن الجميع، وما زالت ذاكرتها تنبض بالحياة، وقصصها لا تنتهي».

المربية "أمل ليلى" من أهالي القرية، تحدثت عن معرفته بالمعمرة "زينو"، فقالت: «يناديها الأقربون بإسم "تمّوم"، هي من نساء قرية "تلدرة" القديمات، وأحد معالمها الإنسانية، لم تتزوج، مات والداها وعاشت في بيت أختها "صالحة جوهرة" الأصغر منها، وكانت العائلة كريمة وطيّبة جدّاً معها، حيث ربّت أولاد أختها وأولادهم، وتنقلت بين بيوتهم مربيّة ومعزّزة ومكرّمة من الجميع، تتمتع بالخلق الطيب، ومحبوبة من كل أهل القرية، وهي الآن تتحرك قليلاً جداً، ولكنها حافظت على عقلها وذاكرتها تماماً، ولم تزل في بيت أختها التي أصبحت عاجزة أيضاً. كانت كريمة ولم تزل حسب طاقتها، فتهدي من يزورها بعض الأعمال اليدوية الجميلة من بقايا القماش، ولم تزل تشك الخيط بالإبرة بدون نظارة».

يذكر أن المعمّرة "تميمه محمود زينو" من مواليد "تلدرة"، عام 1915.