لغة الضاد انتماؤه أينما ذهب، حيث لعب الفنان "جاسم الدندشي" منذ الطفولة بالفرشاة واللون والكلمة والحرف على صوت الموسيقا وصهيل الخيل ورائحة الهيل وصوت المهباج، فساعدوه على الإبحار في عالم الاغتراب نحو 35 عاماً، ليختصروا المسافة بينه وبين وطنه "سورية" برسائل المحبة والفرح والسلام.

عرف عن نفسه قائلاً: «أنا عربي الهوى، وعشقي "دمشق". الفن هو الدهشة، والعين النجلاء التي ترى مفاصل الحياة بطرائق مختلفة، وهجرة من صخب الحياة والضجيج والحقد والكراهية». هذا بداية حديث "الدندشي" لمدونة وطن "eSyria" التي تواصلت معه عبر مواقع التواصل الاجتماعي بتاريخ 24 تشرين الثاني 2017، وقال: «معجون أنا من عبق الياسمين والتاريخ والأصالة، وعاشق للشعر والرسم والخط والتاريخ، وابن أسرة وعائلة لها تاريخ وطني في "سورية" و"لبنان"، ولدت في "تلكلخ" مكان جميل قد يكون أقرب إلى القرية، وأكثر مدنية من مدن منسية كثيرة، ضمن أسرة فنية وأدبية، فوالدي أستاذ موسيقا وصاحب صوت جميل ويعزف على الآلات الموسيقية وخاصة آلة العود، وعمي "معن الدندشي" فنان سوري، وجدي شاعر، وجدتي عازفة عود وملهمتي وصاحبة صوت "كلثومي"، وعمتي تحفظ أكثر من عشرة آلاف بيت من الشعر، إلى هذه البيئة الجميلة انتسب. ملامحي من هنا بدأت، حيث أسرتي الكبيرة "الدنادشة"، ووالداي هذّبا فكري وسلوكي، وصقلا موهبتي بقيم أتباهى بها».

أنا عربي الهوى، وعشقي "دمشق". الفن هو الدهشة، والعين النجلاء التي ترى مفاصل الحياة بطرائق مختلفة، وهجرة من صخب الحياة والضجيج والحقد والكراهية

وعن بداياته وموهبته، قال: «الموهبة تفرض سطوتها، فلا نعرف معناها أبداً إلا في لحظة ما وبتوقيت مختلف، هي كالدهشة باغتتني، استيقظت ووجدتها، ولعبت بالفرشاة واللون والكلمة منذ طفولتي، ولملمت الحبر المسكوب على دفاتري ورسمت وجوه أحبتي، ومحوت رسوماً من الذاكرة، نعم مررت بمراحل مختلفة، ومعلمي الأول البيئة المحيطة والناس والكتب والموسيقا وصوت المهباج ورائحة الهيل والخيول والمساحات الخضراء، ودلالات مختلفة أسست لموهبة خارج الطقوس المتعارفة فنياً، فكانت اللوحة بوحاً جميلاً من حروف ملونة».

أسماء مشغولة بطريقة فنية

الغربة والتراكمات التاريخية في حياة كل إنسان أو فنان هي تجربة غنية، وتابع: «ثلاثون عاماً قضيتها في "السعودية" كانت ضبابية إلى حد كبير، وكانت امتداداً في الغوص لمعرفة تفاصيل وثقافة جديدة، تأثرت بها كثيراً وكانت المحرض الأول على رفض الواقع الذي أعيشه من عمل روتيني مثل كل إنسان يبحث عن رزقه، كنت أكتب أحياناً أو أرسم رسومات قليلة أو لوحات خط بسيطة، أو وجوهاً ترجمت هذه المرحلة، وكتبت قصائد عن الغربة وعشقي لأرض الياسمين "سورية"، وكنت دائم البحث عن مكان يروقني، أو العودة إلى الوطن، لكن الأحداث التي تعصف ببلدي أجبرتني على هجرة قسرية ثانية إلى "مونتريال"، إذ كنت مسكوناً بالخوف على مستقبل أولادي، وهنا تبدأ الحكاية من "مونتريال" عاصمة الحب والجمال، انتعاش وإبحار وارتقاء، وحدودي بين الأرض والسماء والكون والإنسان».

وعن فنه الذي حمله معه إلى بلاد الاغتراب، قال: «الفن ينغرز كالرمح في خاصرة كل فنان، بالتأكيد لا يمكن أن أرسم أو أكتب قصيدة إن لم تكن هناك حالة تحرضني، ولا أدري ما قيمة اللوحة إن لم تحتل عقلي وفكري، المواضيع كثيرة، وهي التي تختارني؛ العروبة "سورية"، الحب "الشام"، السلام، الحرية، والمرأة قضيتي، والخط العربي أساس مهم في تطبيق الفكرة التي تدور في خاطري. ولغة الضاد هي الرسالة التي أنشدها، حضارتي وثقافتي وتاريخي وأحلامي وحكاياتي وذكرياتي، والعنوان المرسوم من الشموخ والعلاء والتحدي. التحدي أن أوصل رسالتي إلى العالم؛ أن العروبة بشارات خير، والإسلام نشيد العصر كما المسيحية واليهودية وكل رسالات السماء. هنا تبدأ القضية أن حرف الضاد هو يقظة للفكر الإنساني، وأن السلام والحب والاعتراف بالآخر هو إشراقات نور وضياء لهذا الكون الجميل، فلما أخط الحروف البيضاء على خلفية سوداء، أنتظر كيف تستقبل عيناي العتمة والنور، الليل والنهار، هنا أظن أن اللون كما تراه عيناك وروحك وقلبك، فالألوان منحة إلهية لكل فنان ولكل عين تعشق وتحب ولكل شاعر وأديب يعي تماماً أهمية اللون في قصيدته أو فنه. اليوم انتهيت من لوحة بعد سنة وأنا أجلس وأرسم النقطة وأسكب اللون لأعرف ما بداخلها، والفرشاة واللون هي التي تحدد مسار اللوحة، فالمدارس الفنية لا تثير اهتمامي بقدر ما يجذبني اللون والمسافة والأفق والمدى بداخلها، وأمقت اللون إن لم يعبر عن الفرح والمحبة. خمسون عاماً وأنا أكتب وأرسم وأقرأ الوثيقة المهمة التي تؤرخ وجهي ولون ملامحي، حيث الكلمة والتاريخ والحب اختصار جميل لمسيرتي. الثروة اللغوية عمرها ستون عاماً من القراءات المتعددة لي في الشعر والقصة والمقال والسياسة والصحيفة والمجلة، وكل أقصوصة أعجبتني أحتفظ بها، ولدي الكثير بين أوراقي التي تركتها -يا للأسف- في مدينتي "تلكلخ" على أمل العودة، لكن لا أعرف أين مكتبتي التي تحتوي أكثر من ألفي كتاب ومخطوط ووثائق كثيرة وكتباً مهمة في التاريخ والأنساب والشعر والترجمة».

صهيل خيل بطريقة فنية

وعن قيمة اللوحة في بلد الاغتراب والرسالة التي يرغب أن يرسلها، قال: «اللوحة تؤسس لثقافة مجتمعية، ويهتم الناس بها، وتنقل ثقافات وحضارات تبدأ من العين ومخاطبة الآخر في اللوحة. كيف يمكن أن تدخل أعماق الآخر إن لم تملك أدوات التخاطب بالبسمة والضحكة والقيم التي تحملها، الثقافة عبادة وتقوى؛ العبادة أن نكون رسل سلام لله على الأرض، والتقوى أن تكون تقياً بأخلاقك وقيمك مع ذاتك أو مع الآخر، ما أجمل أن تنقل حضارتك إلى الآخر ولو عبر ضحكة! شاركت بالمعارض للحفاظ على الهوية العربية، حيث السمات التي تحملها أعمالي. القصيدة أو الخط العربي هي عروبية بالمطلق، وتتمحور حول هذه القضية، بحكم العبث التاريخي الذي نعيشه إلى اليوم من التشويه والتزوير، فالشرق مهبط الرسالات، والمهمة التي علينا أن نوقظها بداخلنا دائماً أن الإنسان يجب أن يكون العنوان الأول».

وعند سؤالنا: أيّما أقرب إليه اللوحة أم القصيدة؟ أجاب: «لا أظن أن هناك واحدة أقرب إليّ من الأخرى؛ فالفن والأدب تفاصيل جميلة تعبر من خلالها جسور الأحلام، لكن القصيدة كلمة، واللوحة لون، وهنا اختصار جميل لعذاب عاشق اختلفت تعابيره بين اللوحة والقصيدة».

لغة الضاد بمونتريال

يقول في قصيدته "همسة":

"خمرك معتق..

ولما احتسيت كأسي..

عرفت كيف مثلك يعشق...

ومضيت في ثمالتي...

وقلبي في حبك تارة يرقص...

وتارة يتموسق...

هذا هو الحب... لما أنت..

بعد البحث عنك... تعلمت

كيف أعشق... وتعلمت

كيف أطوف في عينيك...

وأرتقي السحاب والغيم... قبل

في بحور الطهر أغرق"

تسكنه "دمشق" بدفئها وضياء مدنها المنسيّة، وتقّض مضجعه صور حربها المرّوعة، إنه الفنان الهارب إلى الضوء والشرفات، بهذا الوصف بدأت الأديبة والمذيعة "كوليت درغام" التي تعمل في راديو "كندا" وإذاعة "الشرق الأوسط" حديثها، وأضافت: «يُسخّر المهاجر السوري "جاسم الدندشي" في "مونتريال" كل الأدوات من أجل عكس روحه التي خبأ فيها ذكريات جميلة عطِرة من شآمه وطفولته في مسقط رأسه مدينة "تلكلخ" الواقعة على الحدود السورية اللبنانية. في "مونتريال"، نلتقيه في كل زاوية شعرية وأدبية وتشكيلية واجتماعية وسياسية وعروبية وحتى كندية، في المرسم والصالون الأدبي، في المتاحف والأمسيات الشعرية يتوّهج حضوره وهو يحمل همّ المشرق وحضارته وثقافته، من معرض للخط العربي إلى معرض فنون تشكيلية إلى أمسية شعرية، في كل هذه الاحتفاليات يحاول "الدندشي"، الذي لم يمض على وصوله إلى "مونتريال" سوى أربع سنوات، أن يفجّر حزناً ووجعاً، سؤالاً وحيرة، غضباً وثورة، حباً وفرحاً، شوقاً وحنيناً، وإلى ما هنالك من مشاعر واختلاجات متناقضة يتمخض بها هذا الهارب إلى الضوء والشرفات».

يذكر أن الفنان "جاسم الدندشي" من مواليد "تلكلخ"، عام 1957.