شكّلت أعمال الفنان "عثمان دريعي" أيقونة ملونة ورسالة صافية لأبناء البلد والمغتربين للتمسك ببلدهم ومحبتها؛ إذ جمعت لوحاته بين عشقه للطبيعة وحبه لتراب بلاده، عكس أصالة التاريخ السوري، وحاكى هموم الناس من خلال إظهار الجانب المشرق من الطبيعة وعبق التاريخ.

مدونة وطن "eSyria" تواصلت معه بتاريخ 12 كانون الأول 2017، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وقال: «أنا إنسان أعشق الطبيعة وأحب الشجر والتراب ورائحة الأرض وأسرح مع غروب وشروق الشمس وأسبح في غيوم السماء، وساعدتني موهبتي على نقل عشقي لطبيعة بلادي وجمالها بواقعية صادقة، وهناك بعض الانطباعية للوحاتي "كالنور والظل".

كل فنان يتمنى أن يحافظ على كل أعماله ويعدّها أيقونات خاصة به، وأيضاً هذه أنانية، فيجب على المتابع وعاشق الفن أن يقتني أعمال من يحب، والفنان أيضاً هو بحاجة إلى المادة، فالبيع يخدم الطرفين؛ الرسام ومن يشتري الأعمال، واللوحة كالكتاب، لكل منهما فئة تهتم بشرائهما

عشقت الرسم والخط العربي منذ نهاية المرحلة الابتدائية، حيث كنت هاوياً وأتدرب بمفردي، ولمعت في المرحلة الإعدادية كرسام المدرسة وحصلت على التشجيع من معظم الأساتذة. شاركت في المعارض التابعة لمنظمة "شبيبة الثورة" ببعض اللوحات الكرتونية الملونة بالألوان المائية والشمعية، وبعد أن نلت الشهادة الإعدادية عام 1976 تدربت لمدة عامين في مركز "صبحي شعيب" التابع لوزارة الثقافة في "حمص"، وفي هذه المدة شاركت بمعرض لاتحاد الفنانين التشكيليين بذات المركز. حصلت على الشهادة الثانوية عام 1979، وتقدمت إلى مسابقة كلية الفنون في جامعة "دمشق"، لكن -يا للأسف- لم أقبل، لكنني كنت أدرك أن الرسم موهبة فطرية تولد مع أول صرخات قدومنا للحياة، وتنبض بالقلب فتشعرك بحاجتك إلى الريشة وحركاتها وألوانها من دون أدنى تساؤل؛ فأنت تحاور الواقع والطبيعة والجمال برؤيتك الفنية من الطفولة، وتلعب مخيلتك البصرية والذهنية المعجونة بالواقع والمشحونة بالمشاعر دوراً كبيراً في التشكيل والتكوين، حيث تطيعك أفكارك وأحلامك الهائمة والباحثة عن ركن هادئ تلجأ إليه لتحييها، التي سبق أن آنستك واختبأت بين دواخلك النفسية والذهنية، وكأنك تعيش حلماً، وعندما تستيقظ منه تجد أنك شكلتها روحاً ناطقة ملونة تعبر عما كان يجول بذهنك، والفن هو ابتكار لأعمال لا يمكن أن تتكرر.

أزقة حمص

الفن سرّ غامض بين الرسام ولوحاته، وهو الحس الداخلي، حيث لا يستطيع أحد أن يراه، وللفنان أسرار وممرات، وفي كل لوحة يترك الرسام ممراً لها ليتفهمها المشاهد؛ وذلك هو الإبداع الفني. لنجاح العمل الفني يجب الإمعان والتركيز والانخراط بالعمل من دون التفكير بغيره، لأن الإبداع يحتاج إلى روح وحس فني، حيث نجد التميز من الداخل قبل الخارج، والرسم موهبة فطرية لا تنجح إلا بالمتابعة والعمل».

واستكمل الحديث عن مشواره الفني قائلاً: «وجدت التشجيع وحصلت على الكثير من خبايا هذا العلم والفن من الفنان الراحل "أحمد دراق السباعي"، حيث تعلمت أساسيات الاحتراف وعلاقة الضوء والظل والبعد الثالث وأموراً فنية كثيرة. أعشق الطبيعة في الرسم لأنها تتكلم بصدق عن مشاعر الإنسان، ويشدني رسم الأحياء القديمة من مدينتي "حمص" بما تحمله أزقتها من محبة متبادلة وترابط أسري، والفن الناجح يتطلب من الرسام التفكير بالمواضيع المراد رسمها وتصويرها بتخيل الأشياء، وتطبيقها واقعياً مع نقل أحاسيس الفنان الاجتماعية والإنسانية والأخلاقية والإصلاحية وتطعيمها بالألوان، وللون دور كبير؛ فهو الذي يعطي للوحة بريقها وبعدها، وأرى أن تدرج الألوان هو النجاح، فهو من يتكلم عن اللوحة وما تحمله من مواضيع، وهو الإنجاز الفني، والفن هو ابتكار لأعمال لا يمكن أن تتكرر، وله مدارس عديدة، ولكي يتميز الفنان ويعلو يجب أن يختار ويميز أعماله عن غيره. ومعظم لوحاتي كانت ضمن المدرسة الواقعية، وبعضها من الانطباعية، وأحياناً من السريالية، لكنني أعدّ نفسي ابن المدرسة الواقعية.

بيت قديم من تراث حمص

لا يمكن للفنان أن يجبر على عمل إلا برغبته وحسه الفني، فالفن رسالة ثقافية وهو مؤتمن على إيصالها بصدق واحترام لتحقيق ما يسمو إليه الإنسان، وعلى الفنان أن يقدم أعمالاً ونشاطات تخدم بلده بإخلاص، فله دور كبير في السعي لمحبة الوطن والإخلاص له من خلال أعماله الصادقة، وعندما يكون ذهن الفنان صافياً يستطيع أن يتخيل وينتج ما هو فني».

وتابع الحديث عن معرضه الأخير الذي حمل اسم "ريشة الميماس": «وجهت رسالة إلى أهل بلدي الطيبين في هذه الظروف الصعبة التي تعيشها "سورية" لتشجيعهم على التمسك بأرضهم، لقدسية ترابها وجمال أرضها وطبيعتها، ودعوة الشباب في المهجر للعودة إلى أرض الوطن الطيب. أطلقت عليه هذا الاسم؛ لأن كلمة "الميماس" عبارة عن موقع جميل في "حمص" ويضم بساتين وحدائق كثيفة بأشجار "الزيزفون" ويتخللها "نهر العاصي"، وكانت ملتقى الشعراء والأدباء والفنانين، وهي رمز من رموز "حمص". تضمن المعرض 61 عملاً تنوعت بمواضيعها، فكانت هناك مواضيع تحمل عبق التاريخ السوري عموماً والحمصي خصوصاً كالأماكن الأثرية، ووجهت رسائل فنية للمغتربين للعودة إلى البلاد بإظهار معالم مدينة "حمص"، وفي الوقت ذاته جسدت ببعض اللوحات تمسك أبنائها بهذه البلاد والبقاء فيها على الرغم من كل الصعاب. أظهرت بعض اللوحات المساجد القديمة والكنائس التاريخية لتحاكي التعايش في هذه المدينة الجميلة، ولوحات حاكت الطبيعة الخلابة من بساتين ومزارع، وكانت مواضيعها تحاكي هموم الناس وتبعث فيهم الأمل من خلال إظهار الجانب المشرق من الطبيعة.

مع الدكتور عبد المعطي دالاتي في معرضه الأخير ريشة الميماس

أبتعد عن الرسم المؤلم والحزين، وهناك تأثير نفسي وعلمي في أعمالي، فالألوان تعدّ عنصراً مهماً من عناصر الفن بوجه عام، والفن التشكيلي بوجه خاص، ولاسيما الجمالي، ومن دونها لا نستطيع أن نميز العناصر الفنية، حيث تمتلك الألوان تأثيرات عملية ونفسية ومردودات جمالية، لذلك تعدّ من أهم العناصر التي تجذب المتلقي وتوضح الفكرة».

وأضاف: «كل فنان يتمنى أن يحافظ على كل أعماله ويعدّها أيقونات خاصة به، وأيضاً هذه أنانية، فيجب على المتابع وعاشق الفن أن يقتني أعمال من يحب، والفنان أيضاً هو بحاجة إلى المادة، فالبيع يخدم الطرفين؛ الرسام ومن يشتري الأعمال، واللوحة كالكتاب، لكل منهما فئة تهتم بشرائهما».

من المهتمين بعالم الفن التشكيلي الشاعر والطبيب "عبد المعطي الدالاتي"، قال عن الفنان "دريعي": «جمعت لوحاته بين الثنائيات؛ إذ ألفت بين جلال الإنتاج وجمال الإخراج، وآخت بين الأصالة والمعاصرة وبين الفخامة والعذوبة، والحضور الأول في فنه هو للطبيعة والورود الجميلة، أما الثاني، فهو لذكريات "حمص" مدينة الجمال، حتى يصح أن نطلق عليه لقب "الميماس"، لا أزال أذكر من عشرين سنة حين كنت أجلس معه على ضفاف لوحاته الأولى، ليحدثني عن الفن والهروب من اللون، ولم أكن أدري حينئذٍ أنه سيأتي يوم أتحدث فيه عن فنان ملهم كبير، يتميز بأصالته وبراعته وجمال ألوانه، لأنه يؤمن بأن الفن للحياة، فقد فتح بستان فنه للزائرين في معرضه الأخير الذي أقامه في المركز الثقافي العربي في "حمص". عند دخولي قاعة المعرض شعرت بأنني ألج إلى عالم يضج بالفكر والفن والحياة، كانت ساعة استثنائية متفردة، خرجت عقاربها عن إطار ساعات العمر الرتيبة.

عشرات اللوحات الرائعة التي استهلكت فكراً وإلهاماً وزمناً، احتشدت كلها في مكان واحد وزمان واحد، لتشكل عرش الفنان "دريعي". عشرات اللوحات رسمتها روحه وريشته بمستويات فنية عالية. فلم يؤثر الكمّ في الكيف، فكان اجتماعها حقاً مهرجان جمال، والجمال دعوة إلى الفن، والفن دعوة إلى الحياة».

يذكر أن "عثمان مصطفى دريعي" من مواليد "حمص" عام 1959، متزوج ولديه ثلاثة أولاد، حاصل على شهادة التخدير من المعهد الصحي في "حمص"، وأنهى عمله الوظيفي كمدير إداري للمستشفى الوطني في "حمص".