لم يشأ أن تكون آلة الناي بين أصابعه مجرّد وسيلةٍ لإعلان موهبته، بل طوَّر ذاته أكاديمياً ومهنياً، من أجل أن يحلِّق معها مبدعاً متميّزاً، ليصبح سفيراً لبلده مع كبريات فرق الأوركسترا العالمية، مؤكداً أنَّ الموسيقا لغة الشعوب.

مدونة وطن "eSyria" التقت بتاريخ 20 حزيران 2019، الفنان "جورج ضاوي" ليتحدث بدايةً عن رحلته مع الموسيقا، فقال: «علاقتي مع الموسيقا جاءت بمحض المصادفة؛ فأنا لم أتعامل مع آلةٍ موسيقية إلاّ في الثانية عشرة من عمري، وما زلت أذكر آلة "الأورغ" التي كانت في منزل عائلتي في حيِّ "الحميدية"؛ حيث ولدت وترعرعت، ولم أكن أعلم أنها ستكون سبباً فيما أنا عليه الآن. وجاء انتسابي إلى فرقة الكشافة التابعة للكنيسة، ليضعني على طريق الموسيقا لاحقاً، حيث تدرَّبت على آلة "الترومبيت"، وبدأ تعلمي لأصول الصولفيج الموسيقي، كان هناك شيءٌ بداخلي دفعني إلى البحث عن آلةٍ تشبه شخصيتي ربما، وهنا أتذكر "سمير عازار"؛ وهو من صانعي الآلات الموسيقية المميزين في مدينة "حمص"، حيث اشتريت منه أول نايٍ في حياتي من دون معرفتي بتسميته الصحيحة. فضولي دفعني إلى التعلّم عليه ذاتياً من دون مدرِّب؛ من خلال مؤلَّفٍ وحيد كتبه عازف الناي الشهير "محمود عفت"، زاد تعلقي بهذه الآلة الملأى بالشجن والإحساس تباعاً خلال ثلاث سنواتٍ من التدرُّب الذاتي، وبعد حصولي على الشهادة الثانوية كان توجهي لدراسة علوم الحاسوب والمعلوماتية، لكن في داخلي الشغف بالموسيقا كان دفيناً وقوياً؛ لذا انتقلت بعد عامٍ إلى الدراسة في كلية التربية الموسيقية بجامعة "البعث"، وتخرّجت عام 2010».

من خلال عملي الطويل مع فرقة السيدة "فيروز"، وبعدها فرقة الفنانة "جوليا بطرس"، كان مطلوباً مني إيجاد عازف صولو على آلة "الناي" يكون على مستوى الأعمال الفنية التي تقدم، وهنا جاءت المصادفة لأشاهده وأستمع إليه في المعهد العالي للموسيقا أثناء دراستنا للماجستير معاً، وأعجبت بالمستوى العالي الذي يعزف به، والتكنيك الذي يمتلكه أثناء العزف، فدعوته للانضمام معي إلى الفرقة، وبالفعل أثبت "جورج" جدارته في ذلك الحين، والاحتكاك مع فرق سيمفونية عالمية أعطاه المزيد من الخبرة والمهنية العالية. وبالنسبة لي شخصياً، هو عازفٌ مهمّ ومتميّز على آلة "الناي"

يتابع "جورج ضاوي" سرده عن المرحلة التالية في رحلته مع الموسيقا، التي فتحت له أبواباً جديدة، فيقول: «بعد التخرّج في الجامعة عملت مدرِّساً للموسيقا في عدَّة مدارس لمدة ثلاث سنوات، كنت أشعر بأنَّ طريقي لن يقف بي هناك، وشاءت الأقدار أنه تمَّ افتتاح التسجيل على شهادة الماجستير للمرة الأولى، في كلية التربية بجامعة "دمشق" بالتعاون مع المعهد العالي للموسيقا، وبالفعل سارعت للانتساب إليه، وهناك أصبح الأمر مختلفاً من ناحية التعمّق في علوم الموسيقا وتاريخها، وخاصةً بما يخصُّ آلة "الناي"، أساتذة كبار أشرفوا على تدريسنا، أذكر منهم: "وائل النابلسي" المختص بالعلوم الموسيقية، و"نبيل الأسود" المتخصص بتاريخ الموسيقا، إضافة إلى الاحتكاك مع عازفين أكاديميين محترفين، كلُّ ذلك كان له دور كبير في تطوير علومي الموسيقية، وامتلاكي تقنياتٍ جديدةٍ طوَّرت من مهارتي، وهنا عادت المصادفة لتكون سبباً في انطلاقتي نحو عالمٍ جديدٍ من الاحترافية، فذلك الاحتكاك جعل من أحد زملائي في المعهد "وسام الشاعر"، وهو من عازفي آلة "الأكورديون" المتميزين، وله باعٌ طويلٌ في العزف مع السيدة العظيمة "فيروز"، بعد مشاهدته لي وإعجابه بأدائي لأن يدعوني إلى الانضمام معه لفرقة الفنانة "جوليا بطرس"، هذا الأمر كان صدمةً بالنسبة لي، لكنها كانت سعيدةً ومرهبةً في ذات الوقت، تلك الرهبة بالعزف مع قامةٍ فنِّية مثلها جعلتني أقدِّم أفضل ما عندي، وبالفعل أصبحت تلك المصادفة واقعاً عام 2014 من خلال الحفل الأول لي ضمن فرقتها، وكان على مسرح "بلاتييا" في "لبنان" أمام الآلاف من الحضور، وما زلت مستمراً معها منذ خمس سنوات».

مع الفنانة جوليا بطرس أثناء إحدى "البروفات"

وعن مشاركاته اللاحقة قال: «كما أسلفت، فإنَّ العمل مع فنانين كبار، ويقدمون فنَّاً موسيقياً مرموقاً، جعلني أكون على مستوى تلك الأعمال التي شاركتهم بها، كذلك فتح لي باب المشاركة مع عدة فرق أوركسترالية حول العالم، أهمها الأوركسترا الأرمنية الفلهارمونية إن كان مع الفنانة "جوليا بطرس"، وقبلها فرقة أوركسترا "براغ" الوطنية، أو بمفردي كما هو الحال في العمل الأخير الذي قدمناه على مسرح "المجاز" بمدينة "الشارقة" الإماراتية بداية العام الحالي. ومن أحب مشاركاتي كانت في العام الماضي ضمن فعاليات مهرجانات "بعلبك" الدولية وعلى مسرحها الأثري الشهير، وذلك مع الأوركسترا الرومانية الوطنية، في عمل مسرحي موسيقي ضخم للفنان "جورج خباز"، كما كان لي مشاركة مع مجموعة من العازفين السوريين، وبمشاركة الفنان المنشد "بشار زرقان" في مهرجان "الإنشاد الصوفي" الذي أقيم في مدينة "مسقط" العمانية أواخر عام 2018. بالتأكيد هذه المشاركات جميعها زادتني علماً واحترافيةً في أدائي، لأنَّ تجارب كهذه أيَّاً كان نوع الفن المقدَّم فيها، تزيد الفنان غنى ومعرفة وتمكُّناً في الأداء».

وعن نشاطاته خلال السنوات الأخيرة في "سورية" أردف قائلاً: «منذ عامين رشَّحني الصديق "عفيف دهبر"؛ وهو من عازفي الإيقاع المحترفين، وزميل الدراسة في مرحلة الماجستير، لكي أكون أحد أعضاء الفرقة الموسيقية الخاصة بالفنانة "ميادة بسيليس" عند إعادة تكوينها، كانت فرحة عظيمة أن أعزف مع شخصية فنِّية كبيرة، فيها من الأصالة والالتزام الفني الشيء الكثير، وقدمنا عدة حفلات داخل "سورية" وخارجها، ومن تجاربي الفنية التي تركت أثراً في نفسي مشاركتي ضمن كورال "إيماني فيك كبير"، الذي أسسته وتقوده الصديقة "جولي موسى"، لأنَّ العمل مع فرقةٍ جلُّ أعضائها من الأطفال أصحاب الاحتياجات الخاصة أمرٌ في غاية الصعوبة، لكن في الوقت نفسه يعطي شعوراً جميلاً لمعنى العطاء الذي يقدَّم لهم من أجل رسم ابتسامة على وجوههم، وترى النجاح الذي حققه هؤلاء الأطفال على الرغم من صعوباتهم الخاصة، لكن خبرتي من خلال مشاركتي مع كورال "جوقة الفرح" الذي يقوده الأب "إلياس زحلاوي" خلال جولتنا في "فرنسا" العام الفائت، وآخرها التعاون مع كورال مدرسة "طائر الفينيق" في مدينة "طرطوس"، الذي تشرف عليه وتقوده الفنانة الراقية والمرنمة "حلا نقرور"، كل تلك التجارب مكنتني من أن أقدم مع الأطفال أفضل ما عندي لهم بكلِّ سعادة ومحبة».

مع الفرقة الموسيقية للفنانة ميادة بسيليس

"إياد حنا" الأستاذ الجامعي والموسيقي المحترف، عن رأيه بالموسيقي "جورج ضاوي"، قال: «هو من زملاء الدراسة في مرحلة الماجستير، الذين أعتزّ بهم، ومن خلال متابعتي لأعماله وحتى في عملنا معاً، أراه فناناً شاملاً على آلة "الناي" بكل ما يحمله هذا الوصف من معنى، إن كان من الناحية الأكاديمية أو المهنية، وما يميزه أكثر ذلك الإبداع والقدرة على خلق ما هو جديد دوماً في كلِّ عملٍ موسيقي يشارك فيه. يمتلك العديد من المهارات التي تجعله قادراً على العزف بجميع الأنماط الموسيقية، كاستخدام آلته الشرقية في عزف الموسيقا الكلاسيكية الغربية، والعكس صحيح؛ عندما يبدع في عزف الموسيقا الشرقية على آلة "الفلوت" ذات الطابع الغربي. أمَّا من الناحية الإنسانية، فهو شخص متواضع، وروح الدعابة ترافقه في كلِّ حين، عدا التزامه وحيويته الدائمة، وأنا أراه من أهم وأميز عازفي "الناي" في منطقتنا العربية عموماً، وبصماته تركت أثراً مع فرق الأوركسترا العالمية التي شارك معها».

المايسترو "وسام الشاعر" مؤسس وقائد أوركسترا "أوغاريت"، قال عن "جورج ضاوي": «من خلال عملي الطويل مع فرقة السيدة "فيروز"، وبعدها فرقة الفنانة "جوليا بطرس"، كان مطلوباً مني إيجاد عازف صولو على آلة "الناي" يكون على مستوى الأعمال الفنية التي تقدم، وهنا جاءت المصادفة لأشاهده وأستمع إليه في المعهد العالي للموسيقا أثناء دراستنا للماجستير معاً، وأعجبت بالمستوى العالي الذي يعزف به، والتكنيك الذي يمتلكه أثناء العزف، فدعوته للانضمام معي إلى الفرقة، وبالفعل أثبت "جورج" جدارته في ذلك الحين، والاحتكاك مع فرق سيمفونية عالمية أعطاه المزيد من الخبرة والمهنية العالية. وبالنسبة لي شخصياً، هو عازفٌ مهمّ ومتميّز على آلة "الناي"».

الفنان الموسيقي إياد حنا

يذكر، أنَّ "جورج ضاوي" قد شارك في عدة ورشات عمل موسيقية داخل "سورية" وخارجها، مع عازفين عالميين من "اليابان" و"تركيا"، ويعمل حالياً مدرِّساً لآلة "الناي" في كلية التربية الموسيقية بجامعة "البعث"، وهو من مواليد مدينة "حمص"، عام 1987.