عُرفت المقاهي في فترة من الفترات على أيدي العرب، وكان ذلك منذ القديم، حيث أخذت اسم "النوادي"، وانتشرت في "مكة" وغيرها من المدن العربية، وأُطلق على اسم كل ناد اسم القبيلة المختصة به، فتطورت المقاهي مع تطور المجتمعات، وكان لها حضور متميز في العديد من المجتمعات القديمة، بل ربما أصبحت ضرورة لا بد منها في مطلع القرن التاسع عشر، ولم تخل مدينة من المدن السورية من وجود مقهى، بل ربما عشرات المقاهي، ومقهى غزال في "إدلب" شاهد على ذلك.

موقع eIdleb زار المقهى والتقى السيد "أحمد أسمر" صاحب المقهى ومديره الحالي ليحدثنا عن المقهى قائلاً: «يُعتبر مقهى "غزال" من أشهر نقاط العلام في مدينة "إدلب" القديمة، وهو واحد من عشرة مقاه قديمة لا يزال موجودا على وضعه الذي نشأ عليه، غلب عليه اسم مقهى "الحاج غزال" نسبة إلى والدي، ولكن اسمه التجاري مقهى "الكمال"، يعرفه كل أبناء المدينة، ولا سيما الكبار، ولا يزال ملتقى للعديد من الأشخاص كبار السن والمتقاعدين».

أنشئ المقهى في بداية الأربعينات، وبقي تحت إشراف والدي حتى وفاته، وآل إلي الآن بعد عودتي من "أوروبا"، وسوف أعمل على تطوير هذا المقهى، وتحديثه على الطراز الحديث، لأنه الذكرى المهمة في المدينة، والأغلبية العظمى من مرتاديه تجاوزوا السبعين عاماً

ويضيف السيد "أحمد": «اعتُبر المقهى فيما سبق مجتمعا مصغرا، حيث ضم جميع فئات المجتمع الموجودة في مدينة "إدلب"، وقُسم إلى عدد من الطاولات، تعرف باسم أصحابها، فطاولة "المهندسين والفلاحين والعمال والأطباء" وغيرها، واستمر المقهى على هذه الحالة إلى الوضع الراهن، ولا يزال عدد من رواده وزبائنه الذين يزيد عمرهم على السبعين عاماً لا يبرحونه، ولا يفارقونه، وهم من أهم زبائن المقهى، كان بالنسبة لواقع المدينة من أفخم المقاهي العشرة التي كانت موجودة، ولم يبق منها أي مقهى، فأرضه مغطاة بالبلاط منذ نشأته وجدرانه بـ"البورسلان والسيراميك"، في وقت لم تكن الطرق الموجودة في المدينة معبدة».

سعيد اليازجي

ويضيف: «أنشئ المقهى في بداية الأربعينات، وبقي تحت إشراف والدي حتى وفاته، وآل إلي الآن بعد عودتي من "أوروبا"، وسوف أعمل على تطوير هذا المقهى، وتحديثه على الطراز الحديث، لأنه الذكرى المهمة في المدينة، والأغلبية العظمى من مرتاديه تجاوزوا السبعين عاماً».

"عزت دويدري" من الأشخاص الذين يعني لهم المقهى الكثير، وهو لا يكاد ينقطع عنه ويرتاده بشكل يومي منذ زمن بعيد يقول: «منذ أكثر من خمسين عاماً وأنا أتردد إلى هذا المقهى، ولم يمض يوم واحد وأنا موجود في المدينة إلا وآتي إليه، التقي بأقاربي وأصدقائي، وعدد كبير من الأشخاص الذين لم ينقطعوا عن المقهى حتى وفاتهم، كنا نستمع إلى "الحكواتي" ونصغي إليه باهتمام، وبقي الوضع حتى دخول التلفزيون، فكان أول الأجهزة التي دخلت المدينة إلى المقهى، الأمر الذي زاد من مرتاديه أضعافا مضاعفة، حتى لم يعد يستطيع القادم إلى المقهى أن يجد له مكانا للجلوس ولا حتى للوقوف، وأتمنى أن يبقى هذا المقهى مستمراً على ما هو عليه، لأنه صلة وصل بالماضي، وهو من تراث مدينة "إدلب" الذي في طريقه إلى الانقراض».

عبد الحميد حبوش

ويقول السيد "سعيد اليازجي" المدرب في نادي أمية: «أتردد إلى المقهى كلما سنحت لي الفرصة، فأجد العديد من الأصدقاء ونمضي الوقت بالأحاديث المسلية، وهو المقهى الوحيد الباقي في مدينة "إدلب" الذي كان يجتمع به آباؤنا وأجدادنا بشكل دائم، وأتمنى أن يبقى عامراً، لأنه يحكي حكاية هذا البلد، ويعرف كل الأشخاص الذين مضوا، ولا يكاد يوجد شخص في "إدلب" قديما إلا وزاره».

أما السيد "كمال السنتلي" فيقول: «هذا المقهى مجمع للأصدقاء، فأنا منذ طفولتي أتردد إليه مع عدد كبير من أصدقائي، ولا نزال حتى الآن نغتنم فرصة الهروب من العمل لنتوجه إلى المقهى، فلولا المقهى لما اجتمعتُ بأصدقائي إلا بالمناسبات، فهو من أهم المظاهر الاجتماعية في البلد، وهو ما بقي لنا من ماضي هذه المدينة، وأنا ورثت القدوم إلى المقهى عن أبي وجدي اللذين لم يشغلهما عنه أي شاغل».

السلطان ملك الشدة

ويقول المدرس المتقاعد السيد "عبد الحميد حبوش": «قل الاهتمام بالمقاهي بشكل كبير لتوافر وسائل اللهو والترفيه والأماكن الخدمية الأخرى، كـ"الحدائق والكفتريات والمقاصف ومقاهي النت" وغيرها، ولم يعد يهتم أحد بوجود المقهى أو عدم وجوده، وهذه الأشياء كلها أضعفت من الروابط الاجتماعية، وسعت إلى عُزلة المجتمع بعضه عن بعض، فمعظم مرتادي مقاهي "النت والمقاصف" لا أحد يعرف منهم أحداً، بينما كانت المقاهي قديماً صلة وصل ورابطة قوية تربط أبناء المجتمع، وكانت مركزا لاستقطاب الأخبار في المدينة، فـ"الوفيات والمصائب والأعراس والأفراح كلها يُعلن عنها بالمقهى».

أما "شيخ شباب" المقهى وسلطانه السيد "كامل عبد الحنان" فيقول: «أنا من أقدم الأشخاص صلة بهذا المقهى، فمنذ أكثر من ستين عاما لم يبعدني أي شيء عنه، وعُرفتُ منذ القديم لدى كل أبناء المدينة بـ"سلطان زمان"، ولا أحد يعرفني في المقهى وبالمدينة إلا بـ"السلطان"، فجاءت تسميتي من هذا المقهى، حيثُ كنت أقول "القصيد والعتابا"، ومن أمهر من لعب "الشدة والضوما"، وتحديت كل من جاء إلى هذا المقهى، وغلبتُ الجميع، وأنا لا استطيع العيش من دون المقهى أبداً».

ويضيف "سلطان زمان": «في القديم وخاصةً في أيام الشتاء، كنا نأتي إلى المقهى بعد صلاة الصبح، ونبقى نلعب "الضوما" حتى السابعة صباحاً، فنحضر الفطور من أحد المطاعم القريبة، ونستمر حتى نهاية الليل، إن الوقت الذي أمضيته بالمقهى أكثر بكثير من الوقت الذي أمضيته في جميع الأماكن الأخرى، وسأبقى ارتاد هذا المقهى ما دمت حياً».