يعتبر "مصطفى سماق" ابن مدينة "أريحا" واحد من الشخصيات الكثيرة التي يلفت انتباهها التاريخ والإرث الاجتماعي لبلدته، والذي يقف بإجلال واحترام لما ورثه عن أجداده القدماء من أماكن وآثار مادية ومعنوية وعادات وتقاليد، ولكن يختلف السيد "مصطفى" عن غيره في أنه عمل على ترجمة هذا الاحترام إلى واقع يدركه ويراه كل من يبحث عنه، ويجد صعوبة في ذلك.

كما أنه عمل على وضع العديد من الكتب والمؤلفات التي تناول من خلالها جوانب تراثية مهمة، وفصّل وشرح فيها وقارن بين الإرث الاجتماعي ووقعه الراهن على المجتمع الحالي، فكان له بصمة واضحة لا تكاد تُخفى عن أحد في تدوين تاريخ هذه المدينة.

عملية تدوين التراث من الأعمال المهمة والتي تحتاج إلى دقة وزمن طويل، والجهد الذي يبذله السيد "مصطفى" لا تكاد تخفى أهميته على أحد، وبالفعل فإن واقع مدينة "أريحا" يحتاج إلى شخص نشيط ومهتم حتى يستطيع تسليط الضوء عليه وبقوة، وقد ظهر ذلك جلياً من خلال ما قام ويقوم به السيد "مصطفى" من ندوات وملتقيات بشكل دائم يدعو إليها العديد من الباحثين والمهتمين للتعرف على عراقة هذه المنطقة ونشاطها الاجتماعي المهم الذي ساد في فترة من الفترات

موقع eIdleb التقى الباحث التاريخي السيد "مصطفى سماق" ليحدثنا عن علاقته بالتراث ودوره في العمل على تدوينه والذي بدأ حديثه قائلاً: «لقد لفت نظري الواقع الأثري الغني في مدينة "أريحا"، وكنتُ منذ طفولتي أقف في احترام أمام هذه الآثار العظيمة، التي إن دلت على شيء فإنها تدل على عراقة هذه المدينة، وانطلاقاً من ذلك كانت ترتادني فكرت العمل على حفظ هذا الإرث والتاريخ بطرقة ما، وكنتُ أسألُ نفسي كيف أستطيع ذلك، وأُحاول كلما تقدم بي العمر على قرن الحلم بالحقيقة، والتقريب بينهما حتى استطعت أن أحصل على شهادة "البكالوريا" فتوجهت إلى جامعة "حلب" وسجلت فرع التاريخ، وكانت البداية من هنا، وبدأتُ بالعمل الجاد من أجل جعل عملية تدوين تاريخ مدينة "أريحا" حقيقة لإظهار أهميتها من جهة ولمساعدة المهتمين والباحثين في التعرف على المنجزات والمواقع والإرث الاجتماعي الموجود في قرانا ومنطقتنا من جهة أخرى، وبعد أن أنهيت الدراسة الجامعية وحصلت على إجازة، تابعت الدراسات العليا حتى حصلتُ على شهادة في الدراسات العليا في التاريخ، وبعد ذلك عملتُ على التواصل مع جميع الفعاليات والأنشطة المتعلقة في الجوانب التراثية والأثرية في المحافظة، فكنت عضوا في "جمعية العاديات" في "إدلب"، وقمتُ بتأسيس مكتب "التوثيق السياحي والأثري" في "أريحا"، والذي يُعتبر فكرة فريدة من نوعها وغير مسبوقة في المحافظات السورية الأخرى».

الباحث مصطفى سماق

وعن عملية التوثيق والبحث الأثري يقول السيد "سماق": «التوثيق والبحث التاريخي منهج علمي يقوم على عدد من الأسس والدعامات، التي إن افتقد إلى أي منها يصبح عبارة عن قصص لا يمكن الاعتماد عليها كمراجع أثرية صحيحة، ومن أهمها دراسة الشخصيات والآثار الكتابية، أوما يعرف بـ"الاستنطاقات الشخصية" إن وجدت، ولكن يجب عدم أخذ الرواية كما وردت على لسان قائلها، ولكن يجب دراستها ومقارنتها بين الواقع العلمي وواقع هذه الشخصية، وأيضاً دراسة المنطقة والجوانب الأثرية وتسجيلها ضمن سجل خاص بها، إضافة إلى دراسة التراث الشعبي المحكي والذي يتضمن "الموال والعداويات الشعبية والعادات والتقاليد والألبسة والأزياء"، وحتى الأكلات الشعبية التي كانت سائدة، حيث يتم الاعتماد في الروايات الشعبية على الأشخاص المعمرين الذين عاصروا شيء من ذلك».

  • ما أهم البصمات التي تركتها في هذا المجال على صعيد مدينة "أريحا"؟
  • الدكتور حسن عبد المحسن

    ** نظراًً لغنى هذه المنطقة، وبكافة الجوانب الأثرية فكان لا بد من العمل على تفصيل هذا التراث وتقسيمه وتبويبه، لكي يتضح أمام المهتمين والباحثين، ويسهل عليهم تصفحه والإطلاع عليه، ومن ذلك عمدتُ إلى وضع العديد من المؤلفات التي هدفت في كل منها التركيز على جانب واحد، والتفصيل به قدر المستطاع، فكان لي حتى الآن أربع مؤلفات، أهمها كتاب "تاريخ العمارة الإسلامية في أريحا"، ضمنته رصد الجوانب العمرانية القديمة في مدينة "أريحا"، وثم في منطقتها، وكتاب "أعلام من بلدي في مئة عام"، يرصد هذا الكتاب أهم وأشهر المفكرين الذي نشطوا وظهروا في نهاية العهد العثماني إلى الوقت الراهن، وتعريف بكل منهم والمجال الذي أبدع وأضاء فيه، وكتاب ثالث يتعلق بتاريخ القضاء يحمل أسم "المرشد الهادي لكل قاضي"، يرصد تاريخ القضاء في المنطقة وأهمية ذلك على واقع المجتمع، وبدأتُ منذ ست سنوات للعمل على موسوعة وثائقية مصورة عن منطقة "أريحا"، تم إنجاز ثلاثة أجزاء منها ولا يزال العمل بها قائم، حمل الجزء الأول اسم "أريحا تاريخ وحضارة"، والجزء الثاني يتعلق بالتراث الشعبي بعنوان "العرس الشعبي في العهد العثماني"، والجزء الثالث يتعلق برصد التراث "الريحاوي" في رمضان بعنوان "ليالي ريحاوية في رمضان"، وإضافة إلى ذلك قمتُ بإنشاء "ملتقى الأربعين الثقافي"، وهو ملتقى سنوي لتسليط الضوء على أهم الجوانب التراثية والسياحية والأثرية في منطقة "أريحا"، يشارك فيه العديد من الباحثين والمهتمين بالجوانب التاريخية والأثرية من الجامعات السورية وغيرها».

    ويضيف السيد "سماق": «يُعتبر من أهم الأعمال التي قمت بتقديمها خدمة للتراث وحفظه، هو مكتب "التوثيق السياحي والأثري"، الذي قمتُ بتأسيسه عام /2005/ ولكن إلى الآن لم أُوفق بالحصول على بناء مستقل يضمن هذا المكتب، ولكن الأعمال التي سيقدمها هذا المكتب سيكون لها دور مهم في خدمة الجوانب الأثرية كافة في المنطقة، سواء بالنسبة للمنطقة أو للسائح القادم إليها أو الباحث الذي يحتاج العمل على تاريخ هذه المنطقة، فهو مكتب أكاديمي بحثي يعتمد البحث العلمي ولديه أرشيف من المعلومات الأثرية المهمة يزيد عددها عن الألف وثيقة، تعود للعهد "العثماني"، قمتُ بجمعها بمفردي وهي الآن بحوزتي وسأبقى مستمراً في عملية تطوير المكتب هذه إلى أن يصبح مرجع تراثي وتاريخي بكل ما تحمل الكلمة من معنى، حيث سأضمنه عدد كبير من الوثائق التي تتناول جميع الجوانب التراثية والتاريخية وجميع المناطق التابعة لمدينة "أريحا"».

    ويختم الباحث "سماق": «"أريحا" من المدن التي تحتاج إلى عدد كبير من الباحثين حتى يستطيعوا تثبيتها في الكيان الحضاري، ونبشها من تاريخها الذي أعتم الضوء عليها إلى الآن، فلا يُوجد جانب من الجوانب الأثرية إلا ويوجد في هذه المدينة، سواء من حيث المواقع أو الصناعات أو التاريخ المحكي، وأنا أعمل جاهداً بتسليط الضوء على هذا الواقع والتواصل الدائم مع "الباحثين والدارسين والدكاترة"، في عدد من جامعات القطر، وأُشرف على العديد من طلبة التاريخ وطلاب الدراسات العليا الذين يقوموا بإعداد أبحاثهم عن مدينة ومنطقة "أريحا"، كما أقوم بالإشراف على العديد من أعمال الترميم التي طالت العديد من المواقع والأماكن الأثرية البارزة في المدينة كالأحياء والمساجد والأزقة».

    ويقول الدكتور "حسن عبد المحسن" رئيس قسم اللغة العربية في جامعة "حلب" وأحد أصدقاء السيد "سماق": «عملية تدوين التراث من الأعمال المهمة والتي تحتاج إلى دقة وزمن طويل، والجهد الذي يبذله السيد "مصطفى" لا تكاد تخفى أهميته على أحد، وبالفعل فإن واقع مدينة "أريحا" يحتاج إلى شخص نشيط ومهتم حتى يستطيع تسليط الضوء عليه وبقوة، وقد ظهر ذلك جلياً من خلال ما قام ويقوم به السيد "مصطفى" من ندوات وملتقيات بشكل دائم يدعو إليها العديد من الباحثين والمهتمين للتعرف على عراقة هذه المنطقة ونشاطها الاجتماعي المهم الذي ساد في فترة من الفترات».

    يشار إلى أن الباحث التاريخي مصطفى سماق من مواليد مدينة أريحا عام 1956.