يعتبر نهر "العاصي" شريان الحياة في كثيرٍ من المدن التي يمر بها في رحلته من المنبع وحتى المصب، ويشكل البنية التحتية للكثير من الأعمال في مدينة "جسر الشغور" التي تنبسط على ضفتيه وكان مصدر دخلٍ للكثير من الصيادين وأصحاب المقاهي والمهتمين بصناعة السياحة، وبعدما كان مصدر إلهامٍ وعمل لأبناء المدينة، أصبح مصدر قلق وإزعاج لما تسببه الملوثات الصناعية وما يعانيه من شح في المياه وتوقف مجراه في أيام الصيف.

للوقوف عند المشكلات التي أدت إلى تلوث النهر التقينا السيد "سعد الله نجاري" أحد أبناء مدينة "الجسر" فقال: «تتعدد مصادر تلوث النهر وجريانه، فهو حاوية نفايات للحرف اليدوية من النجارين وغيرهم، ومكبّاً لمخلفات المسالخ من الدواجن واللحوم، ومصرّفاً لمياه الصرف الصحي للمدينة، وملاذاً للنفايات والمياه القلوية والحمضية القادمة من شركة "سكر الغاب"، فأصبح بذلك مصدراً للروائح الكريهة والأمراض المعدية من "الملاريا" و"اللايشمانيا" وتكاثر الحشرات المسببة لها، وانتشار السرطان بكثرة بين المواطنين».

حتى مقصف البلدية أغلق بسبب توقف الجريان وانتشار الأوبئة، وأتذكر بعض تسميات مناطق النهر منذ عشرين عاماً ومنها "فوّار أبو الجود" و"فوّار زينب" و"العودة"، و"القاشوشة"، و"مسبح صلاح" حيث تدخل الماء من إحدى أطراف المسبح وتخرج من الطرف الآخر

ولم تتوقف مشكلة النهر عند الصحة العامة بل تجاوزتها إلى مشاكل زراعية وسياحية كان لموقعنا وقفةً عند كل منها، فعلى الصعيد الزراعي يروي المزارع "مجد حلاق" معاناته مع مشكلة تلوث النهر فيقول: «تراجعت معظم الحقول في منطقة حوض النهر نتيجة شح المياه وركودها ما حرمنا من سقاية مزروعاتنا من الحمضيات والخوخ واللوزيات والزيتون، ولم تتوقف المشكلة عند هذا الحد، ففي حالة جريان النهر تتسبب الملوثات الحامضية ومياه الصرف الصحي ومخلفات المسالخ في تراجع الأشجار وجفافها، الأمر الذي يعيق الناتج الزراعي وبصراحة "عالحالتين خسرانين"».

مياه شركة السكر تختلط بمياه العاصي

وسياحياً كانت النتائج جد مؤثرة، خاصةً أن سياحة "العاصي" تشمل الاستشفاء في مياه حمامات "الشيخ عيسى" الواقعة بمحاذاة النهر، وسياحة الاستجمام في ناحية "دركوش"، وعنها أطلعنا السيد "عبدو رياض" مالك مطعم "بوابة دركوش" الواقع على مجرى النهر فقال: «فصل الصيف يمثل موسم السياحة الداخلية للكثير من سكان سورية، ويعد "حوض العاصي" أحد أهم مراكز هذه السياحة التي تراجعت في أعوامها الأخيرة نتيجة سوء جريان النهر وانتشار الأوبئة، وحتى بالنسبة للمطاعم التي اشتهرت بأسماكها الطازجة القادمة مباشرةً من النهر فقد شُلت حركتها تقريباً بسبب انخفاض الثروة السمكية والروائح الكريهة الصادرة من النهر القادمة من شركة السكر ومياه الصرف الصحي لمدينة "جسر الشغور"، ولم تعد حمامات "الشيخ عيسى" كما كانت من قبل، بل أصبحت مهجورةً لا يؤمّها سوى القلة من أبناء المحافظة لانتشار الأوساخ والترسبات المضرة على طرفي النهر رغم المشاريع التي أقيمت عندها من السوق التجاري، وشق الطرق المؤدية إلى قرية "الحمامة" ونبع "عين الزرقاء"».

ولمتابعة مشكلة المياه القادمة من شركة "سكر الغاب" التقينا السيد "حسين الحسن" محضر محطة المعالجة: «تقوم محطة المعالجة بمعالجة المياه القادمة من مرحلة التنشيط لصناعة السكر عبر المضخة وصمام الخلط "دارة التعديل" التي تطرح بعض مياه الشركة إلى النهر حتى لا تكون المياه حمضية بل تكون قلوية وذلك بإضافة "القطرونة" إلى المياه قبل طرحها، وبذلك نتخلص من الملوثات».

مياه الكلس والتفل إلى العاصي

وأضاف "الحسن" «المشكلة الرئيسية أن نسبة هذه المياه لا تزيد على /1%/ من المياه الملوثة المطروحة في النهر، لكن المياه الملوثة التي تصل إليه ناتجة عن إضافة رائق الكلس إلى شراب السكر الذي يصفّى فيما بعد وطرح مياه الكلس وماء التفل في النهر وعبر قناة تصب في النهر مباشرةً دون أية عمليات معالجة».

وبالرجوع إلى المحامي "هشام المصري" رئيس مجلس مدينة "جسر الشغور" عن المصدر الرئيسي الآخر للتلوث وهو مياه الصرف الصحي للمدينة فقال: «لم نستطع حتى الآن وقف تصريف المياه إلى النهر لكننا قمنا بإنشاء قناة بيتونية لإيصال ماء الصرف الصحي إلى خارج الحدود التنظيمية (باتجاه حمامات "الشيخ عيسى" و"دركوش"، ونقوم برش المبيدات الحشرية لوقف الأمراض الناتجة عن تكاثر البعوض والذباب، ولكن مشكلتنا في وقف مجرى النهر والجريان، فالمدينة لا تستوفي حصتها من المياه المخصصة لها من سد "القرقور" والبالغة كميتها /22020/ مليون متر مكعب لشركة "سكر الغاب" وسقاية الحقول المحاذية للنهر».

رئيس بلدية جسر الشغور

وعن المشاريع المقترحة والدراسات الموضوعة أضاف "المصري": «وضعت خطة لحفر آبار تغذية للنهر للتخلص من التلوث واستمرار جريان النهر، وأعدت الخدمات الفنية دراسة لتسوية الحوض وإنشاء قناة بشكل حرف V للمساعدة في الجريان، كما سيتم قريباً البدء بإنشاء محطة لمعالجة المياه الناتجة عن صناعة السكر القادمة من شركة "سكر الغاب" وذلك بالتنسيق مع وزارة الصناعة لتخليص النهر من أولى الملوثات وأكثرها ضرراً على كافة الصعد».

ذكريات النهر الهائج مازالت ترتسم في مخيلة أبناء المدينة فيذكر "محمد حجازي" أحد أبناء "جسر الشغور" ومدير مركزها الثقافي فيقول: «وصفه الرحالة "ابن جبير" مرافق "صلاح الدين الأيوبي" في كتابه "رحلة ابن جبير": "وقفنا على "تل كشفهان" فإذا به كالبحر الهائج بأمواجه المتلاطمة وسرعة تدفقه، وأشجار الصفصاف المستحي التي تنحني على ضفافه"، واليوم تحول إلى مصدر إزعاج وأمراض ويتسم من تلوثٍ وشحٍ في المياه وتوقف الجريان بعدما كان مصدر رزقٍ وسياحة للكثير من العابرين بمدينة "جسر الشغور"».

ويضيف حجازي: «حتى مقصف البلدية أغلق بسبب توقف الجريان وانتشار الأوبئة، وأتذكر بعض تسميات مناطق النهر منذ عشرين عاماً ومنها "فوّار أبو الجود" و"فوّار زينب" و"العودة"، و"القاشوشة"، و"مسبح صلاح" حيث تدخل الماء من إحدى أطراف المسبح وتخرج من الطرف الآخر».