من على هضبة بيضوية الشكل، بيضاء التربة تطل قرية "عين البيضا" شامخةً، ومن على جانبيها يمر نهرا "الكبير الشمالي" و"العرب"، فتبدو وكأنها جزيرة على الأرض أو قرية الرافدين السورية.

يعود تاريخها إلى قرون خلت، فقد تعاقبت عليها أجيال وأجيال وكل جيل ترك أثره بين وعاء فخاري وعملةٍ يعثر عليها الأهالي بين الحين والآخر أثناء حراثتهم للأرض، سكانها أقاموا في خرب قبل أن ينتقلوا إلى الإقامة في بيوت حديثة عرفت بلونها الأبيض المطلي من تراب القرية البيضاء.

لقد كانت ومازالت القرية قرية علم وثقافة، ومركزاً رئيسياً للعلم يأتيها الطلبة من قرى "القلوف، قسمين، حرفوش، خربة الجوزية"، ومع ازدياد عدد السكان فيها اتفق الأهالي على توسيع المدرسة وبناء مدرسة جديدة في نفس الموقع الذي توجد فيه المدرسة الحالية

مدونة وطن eSyria بتاريخ 7/4/2013 التقت الباحث التاريخي "برهان حيدر" الذي تحدث عن قريته "عين البيضا" وتاريخها وتسميتها قائلاً: «تقع القرية بين مجريي نهري "الكبير الشمالي" و"العرب" والذي ينبع من نبع "عين البيضا"، وقد سكنها الناس منذ مئات السنين وأقاموا في خرب سميت بأسماء مختلفة بعضها "خربة برطق، خربة المقيبيقة، خربة عاكف، خربة بيت الراعي، خربة براقنتي"، وأذكر مع أبناء جيلي بقايا تلك الخرب الموجودة في محيط القرية وهي مناطق مازالت تسمى باسم الخرب ذاتها».

مختار عين البيضا "عدنان فاضل"

يضيف: «قرية "عين البيضا" اسم على مسمى فهي سميت نسبة لعين ماء تنبع من صخرة بيضاء موجودة فيها، وقد بنى الناس بيوتهم حولها فقد كانت مركز تجمعهم وهي تروي قريتي "عين البيضا" والتربة".

ومن المعروف أن أول من سكنها عائلة "شهيدة، المرابع، قره علي، صبيح"، وقد كانت في الماضي عبارة عن عدة حارات وبيوت ترابية يتخلل فيما بينها ساحات، وموجود في كل ساحة "باطوس" للبرغل و"تنور" لكل الحي، وقد كانت تحيط فيها "البيادر" التي لم تكن تسخدم فقط في موسم القمح حيث كانت ملعباً للأطفال ومرعىً للخراف الصغيرة».

الباحث التاريخي "برهان حيدر"

سكان القرية الحاليون جاؤوها قبل حوالي /200/ عام بحسب المختار "عدنان فاضل" الذي قال: «عندما وصل أجدادنا إلى القرية سكنوا بمنطقة اسمها "الرباص" وهي موجودة بين قرية "قسمين" والقرية الحالية، إلى جانب البحيرة ولا تزال هذه المنطقة ملكاً للأوقاف حتى اللحظة.

فيما بعد انتقلنا تدريجياً إلى موقع القرية الحالي وأقمنا إلى جانب عين الماء (عين البيضا)، في المراحل الأولى لسكننا وجدنا دلائل عديدة على وجود حضارات مرت على هذه المنطقة وعلى سبيل المثال عثر إلى جانب "عين المقيبيقة" على العديد من اللقى الأثرية وأذكر عندما كنا صغاراً في خمسينيات وستينيات القرن الماضي كنا نجد أثناء حراثة الأرض عشرات اللقى الأثرية، حتى في منطقة الوادي الجواني وهي أرض رملية عثرنا قيها على هياكل، وفي جبل "عين رسلان" أيضاً وجدنا جراراً فخارية وعملة نقدية وما إلى ذلك».

موقع قرية "عين البيضا" على خارطة غوغل

ويضيف "فاضل" متحدثاً عن الفرع الآخر للقرية في "تركيا": «في العام /1947/ هاجر رجل من آل "فاضل" إلى "تركيا" وتزوج وأقام هناك مع عائلته وبعد فترة من الزمن أصبح وعائلته يشكلون قريةً بالكامل واسمها "قرى جلاس"، والعلاقات بيننا قائمة حتى الآن ونزورهم ويزورننا، وهم يتحدثون العربية بطلاقة ويشعر زائرها أنه في "عين البيضا"».

قرية "عين البيضا" بيضوية الشكل وغنية بالأحجار والتربة البيضاء ويؤكد السيد "أحمد فاضل" أن هذه الأحجار موجودة في كل أراضي القرية موضحاً: «أينما حفرت في أراضي القرية ولو قليلاً تعثر على أحجارٍ بيضاء تسمى عندنا "الكدان" وهي مثل الحوارة وقد استخدمناها في مجالات متعددة خصوصاً في طلاء بيوتنا الترابية التي بنيت بطريقة متلاصقة من أجل الأمان والتعاون على الحماية من الوحوش البرية ليلاً، كانت بيوتاً صغيرةً نسبياً ينام فيها المزارع وعائلته وحتى الدواب والتبن، ومن كان رفيع الشأن كان يبني غرفة علوية في المنزل وينام فيها، ولذلك تجد أن البيوت في الحارة القديمة متلاصقة لكون كل شخص هدم منزله الترابي وبنى مكانه منزلاً حديثاً».

تعتبر قرية "عين البيضا" من القرى المتفوقة علمياً فلطالما اهتم أهلها بالعلم وبناء المدارس، وهنا يقول مختارها "عدنان فاضل" متحدثاً عن الجانب التعليمي فيها: «لقد أولي التعليم في القرية اهتماماً كبيراً منذ مرحلة الاحتلال العثماني حيث كان أجدادنا يتعلمون عند شخص كان يسمى "الخوجا" كتابة الخط وقراءة القرآن والإعراب حيث كان كتاب الله وسيلتهم للتعليم فكانت فائدتهم مضاعفة حيث حفظوا القرآن غيباً وتعلم معظمهم القراءة والكتابة عن طريق الخوجا الذي كان يحظى باحترام كبير جداً من قبل أجدادنا الذين ما إن دخلوا في القرن العشرين حتى قاموا ببناء مدرسة في القرية تعلم فيها آلاف الطلاب من القرية والقرى المجاورة وقد تعلم أبناء جيلي والأجيال التي قبله في هذه المدرسة وكان لها فضل علينا جميعاً».

يضيف: «لقد كانت ومازالت القرية قرية علم وثقافة، ومركزاً رئيسياً للعلم يأتيها الطلبة من قرى "القلوف، قسمين، حرفوش، خربة الجوزية"، ومع ازدياد عدد السكان فيها اتفق الأهالي على توسيع المدرسة وبناء مدرسة جديدة في نفس الموقع الذي توجد فيه المدرسة الحالية».

لم يختلف "زيّ" أهالي القرية كثيراً عن "الزي" المعروف بالساحل السوري في تلك المرحلة، وهنا تحدث السيد "أمير فاضل" عن لباس الآباء قائلاً: «لقد ارتديت في حياتي اللباس التقليدي التراثي واللباس الجديد، حيث كان لباسنا في الماضي "قنباز كروز، شروال" و"زنار طرابلسي" مصنوع من الحرير كنا نشتريه من "طرابلس" وهو نوعان نسائي ورجالي، زنار النساء كان مزخرفاً وطوله حوالي 3 أمتار، أما زنار الرجال فهو أسود اللون وطوله من /6/ أمتار وما فوق، وهو للزينة وكلما كان الزنار (الحزام) أطول وأكبر دل على مكانة أعلى وأن صاحبه يعتبر ميسوراً أكثر، وعلى الرأس كان يستخدم أصحاب الجاهات طربوشاً من نوع "شمط" وهو تركي المصدر، وفيما بعد استخدمنا الطربوش العربي المصنوع من القش المقولب».

اشتهرت القرية بزراعاتها وتربية الجمال التي كانت رائجة جداً فيها وكانت معظم أبواب الدار في القرية عالية جداً من أجل الجمال، وهنا أضاف: «تاريخياً اشتهرت القرية بزراعة الزيتون والتبغ والقطن ومزروعات الحبوب من أجل الاكتفاء الذاتي، وفي مراحل لاحقة انتشرت زراعة الليمون (قبل حوالي 50 عاماً)، لكن أراضي القرية كانت بعيدةً عن موقع السكن ما دفعنا للاعتماد على الجمال في نقل الأشخاص والأغراض والمزروعات، حتى إننا استعملناها لنقل الحجر من أجل بناء البيوت حيث كنا نأتي بأحجارنا من قرية اسمها "الخابورية"، كما كنا نأتي أحياناً بأحجار رملية من قريتي "البرج والشبطلية" حيث كانت الجمال وسيلة جيدة لنقلها».

لم تقتصر الجمال على التربية والاستخدام الشخصي فقط حيث كان هناك أشخاص يسمون "جمالين" يؤجرون الجمال كما تؤجر السيارات حالياً، ويقول المختار: «تربية الجمال كانت تربية رابحة بالنسبة لمربيها حيث كانوا يستثمرونها اقتصادياً ويقومون بتأجيرها للآخرين حتى يقضون حوائجهم عليها مقابل مبلغ من المال أو نسبة من الإنتاج الزراعي، لكن تربية الجمال تراجعت مع توافر الوسائل الحديثة وانتشار السيارات خصوصاً أن تربية الجمال مكلفة نظراً لكمية الطعام الكبيرة التي تأكلها يومياً.

تعتبر "عين البيضا" من القرى المتطورة خدمياً وعلمياً باعتبارها مركز ناحية، حيث يوجد فيها بلدية ومدرسة ومركز ناحية، ومركز صحي، دائرة للريجة، محكمة، نائب عام، نفوس، مركز ثقافي، ومركز بريد، ومتحف تراثي، ومركز هاتف وبريد، ومحاسب للمتقاعدين المدنيين، مؤسسة مياه، مؤسسة كهرباء، وحدة إرشادية، ومدرسة ثانوية وإعدادية، وفيها صيدليات وأطباء بعدة اختصاصات، ويبلغ عدد سكانها المقيمين حالياً حوالي /5000/ نسمة وهم يتعاونون على إقامة مهرجان دوري للقرية يحمل اسم "مهرجان عين البيضا التراثي" وهو يقام منذ حوالي /10/ سنوات، وأغلب الأنشطة تقام بتبرع مالي من أهالي القرية».

من الجدير بالذكر أن "عين البيضا" ناحية منذ العام /1954/ وتضم /24/ قرية وفيها /5/ بلديات.