موهبتها ليست حبراً على ورق؛ فقدرتها على تحريك شخوصها الأدبية من تأليف أغانٍ وكتابة قصص، مكنتها من بناء عشها فوق خشبة المسرح مع أطفالها بعفوية مطلقة، حيث غنّت معهم ورقصت، فحاكت عقولهم بلغة قريبة إلى عمرهم وبيئتهم، ملأى بالأفكار الهادفة والقيم النبيلة.

مدونة وطن "eSyria" تواصلت بتاريخ 5 تموز 2018، مع القاصة "أميرة سلامة" لتحدثتا عن بداياتها بالعمل التطوعي، فقالت: «أحببتُ العمل التطوّعي، ومارسته سنوات عديدة في مركز الشلل الدماغي في "مار تقلا" بـ"اللاذقية"، حيث كنتُ أكتب للمعوقين الذين كانوا يتفاعلون مع أعمالي بفرح. وأقمتُ أول مدرسة لكرة السلة في دير "اللاتين"، في "اللاذقية"؛ عبر نادٍ صيفي مجاني للأطفال، أقرأ لهم الحكايات؛ نقوم بتمثيلها، ونختم كل يوم بأغنية».

تملك عيناً جمالية قادرة على التقاط التفاصيل في البيئة، ونقلها إلى المتلقي بقالب أدبي لطيف غير مباشر، والشخصيات في نصوصها تحمل بعداً نفسياً تنحته الكاتبة بقلمها، فيبدو وكأن الشخصيات من المحيط الذي نعرفه جيداً

وعن نشأتها، قالت: «نشأت في بيئة تفضّل الذكر على الأنثى في كل شيء، فمسموح له الخروج واللعب، بينما ممنوع عليّ اللعب والتعلّم بعد البكالوريا، وفضّلت أمي أن أتعلم مهنة الخياطة بدلاً من تحصيل العلم، لكنني نجحت في الخلاص من الإبرة و"الكشتبان" وصوت ماكينة الخياطة، وأكملت دراستي، وقد كان ممنوعاً علي قراءة أي قصة سوى المنهاج الدراسي، فأخفيت القصص التي كنت أستعيرها من مكتبة المدرسة بوضعها وسط الكتب المدرسية، وشراء مجلات "أسامة" و"ميكي" و"تان تان" كان يجعلني أطير من الفرح، وخاصة حين أشم رائحة الصفحات الجديدة الملونة».

من عروضها

وعن الحسّ الساخر في قصصها، قالت: «كانت عائلتنا من أصل غني، لكن حصل بين الإخوة نزاع مالي أدى بنا إلى فقر مدقع، وسط بيئة غنية جداً في حي "القصاع"؛ هذا التناقض جعلني يقِظة، لينمو الحس الساخر من الألم وأحافظ على توازني النفسي. لا شك كان يمكن لموهبتي أن تتلاشى مع مرور الوقت إن لم أنميها، فالألم والحزن والفرح والخوف والدهشة والغضب، كالدماء التي تسري في جسد الموهبة، والانتباه هو قلبها، أما جلدها وعظامها ولحمها، فليس إلا القراءة وتأمل طباع الناس في كل مكان. بعد نيل شهادة البكالوريا، اخترتُ المسرح، وعلاماتي كانت تخولني، لكن أمي رفضت رفضاً قاطعاً، ولولا أخي الأكبر لما استطعت متابعة دراستي في مجال آخر، لأحصل على شهادة كلية الأدب الفرنسي، لكن شغف المسرح بقي في أعماقي، إلى أن تزوجت وسنحت لي الفرصة لبلورة الفكرة وكتابة المسرح للأطفال والكبار، فقدمت العديد من المسرحيات التي نالت إعجاب الجمهور، منها: "حالة طوارئ"، و"حارو وفارو"».

وتابعت: «وقود قلمي القراءة وتأمل طباع البشر، لأنها نبع الأدب، وصفات البشر من بخل وكرم وغيرهما مفاتيح أي نص أدبي. لقد كتبتُ القصة القصيرة، والمسرح، والشعر، والأغنية، و"اسكتشات" الدمى، وقصص الأطفال، وإن لم أحلق في كل منها على حدة، أمحوها. المسرح أبو الفنون ويحوي القصة والحوار والطرفة واللحن والأغنية والرقصة والدبكة، إنه يحوي كل مكنونات البشر الفنية».

قيامها بالتدريبات

وحدثتنا عن بناء العمل الأدبي بالقول: «دخلت عالم الأطفال كقاصة وكاتبة أغنيات ومخرجة بأدوات تشبهني، وأهمها العفوية وعدم التصنّع، فنحن نكتب لهم وليس عنهم، لذا علينا النزول إلى عالمهم، فحين تلتقطين صورة لطفل، عليكِ أن تجلسي القرفصاء كي يظهر وجهه وتفاصيله بدقة، وهكذا الكتابة تحتاج إلى النزول والتأمل والبحث النفسي في كل فكرة نقدمها للطفل، عندها نعرف ما الذي يجذبه في المسرح الذي يعلم الأخلاق ويستبدل المعدن البخس من كذب ونميمة وافتراء بالصدق والجرأة والعلم. الحياة بحدّ ذاتها قصة، لكن يجب على الكاتب أن يبتعد عن الروتين؛ أي ليس كل شيء يحدث معنا قصة، بل الخروج عن الروتين هو القصة، فلحظة الكتابة موجودة في كل مكان، لكن الوقت المتاح لتسجيلها مهم، وأنا أبقي معي دفتراً وقلماً أينما أذهب، وأسجّل رؤوس أقلام لتكون قصصاً ونصوصاً ساخرة. الأفكار مرمية على قارعة الطريق، لكن ما يميز الأديب أسلوب تقديمها، الفكرة أشبه بوليد يحتاج إلى كل شيء، ترضعها الألفاظ المناسبة، تزيل عنها كل ما يقيدها ويثقلها، كي تكون أنيقة ورائحتها جميلة، تجذب القارئ؛ فلا يشمئز من التكرار والترادف والحذلقة والتذاكي».

وعن أحلامها والرسالة التي ترغب بإيصالها، قالت: «حلمي أن نصل إلى احترام الاختلاف والبيئة والطالب والشابة وكل أفراد المجتمع، أن نحترم حرية الآخر فلا نلقي بجثث الموروث العفنة على الأجيال الصاعدة، ونترك لهم من الموروث الجميل كالموسيقا والأدب. الوحدة هي البيئة المناسبة كي تولد فيها النصوص، بعد السفر واللقاءات وأحاديث الجارات، وصراعات الأسرة، وخوض غمار الحرب والمرض والآلام. أخذ المسافة المناسبة بين النص والكاتب، حيث لا يتماهى مع نصوص، وألا يشعر بأنه الضحية، بل الشاهد على كل شيء، حينئذٍ سيكون كاهن الكتابة حاضراً. تأثرت في البدء بالشاعر الروماني "أوفيد" وكتابه "مسخ الكائنات"، كذلك تأثرت بحكايات الشعوب من "ويلز والقوفاز". وفي المسرح، تأثرت بـ"غوته" و"سعد الله ونوس" و"الماغوط" وآخرين. وعلى صعيد الشعر، أحببت جداً الشاعر "أدونيس"، و"جوزيف حرب". أما قصص الأطفال، فأحببت "تشيخوف" و"تولستوي" وغيرهما من الكتّاب الروس. وفي الأدب الساخر، تأثرت بـ"عزيز نيسين" بوجه خاص، و"نيقوس كازانتزاكي"، و"ديستويفسكي" بوجه عام».

العرض المسرحي "عنا شغل"

وعن تعريفها للأديب، قالت: «هو ابن اللحظة، ابن الحاضر، الشاهد على كل شيء؛ الرياح وصوتها، البرق وسرعته، الرعد وغضبه، التراب وكرمه، المطر وإصراره، الفساد والشفافية، العتم والنور؛ فإن لم ينتبه إلى كل شيء، وإلى نقطة البياض ضمن السواد العام، فهذا ليس أديباً. طموحي أن ينفصل المسرح عن أي أهداف سياسية ودينية، وكذلك الأدب بوجه عام، ويغدو الهدف الوحيد في المجتمع رفاهية وعلم وأدب الطفل».

وعن الجوائز والتكريمات التي حصلت عليها، قالت: «"علامة فارقة"، و"ديكو العجول" تبنّتهما مكتبة الأطفال العمومية، والآن نقوم بعمل مسرحي بعنوان: "بورصة". نلتُ الجائزة الأولى عن أفضل كلمات أغنية للأطفال في مهرجان "قيثارة الروح" عن أغنية "أنا طفل زغير" في دار الأوبرا عام 2006، والجائزة الثانية عن أدب الطفولة عن مجموعة قصصية للطفولة المبكرة عام2017، أما الجائزة الثالثة، فقد نلتها من قبل جميعة "spana" عن قصة للأطفال بعنوان: "شجرة نخيل"؛ وهو ما دفعني وشجعني لأكتب المزيد من المسرحيات وقصص الأطفال التي نُشرت في مجلة "أسامة"، وللمصادفة رأيت إحدى هذه القصص منشورة في كتاب الصف السادس الابتدائي، في الكتاب العربي "لغتي" بعنوان: "صافرة أبي"».

وعن رأيها بالملتقيات الأدبية في دعم الحركة الثقافية، ولا سيما التي تعنى بأدب الطفل، قالت: «لم أجد حتى الآن مَن يتبنّى قصصي المنشورة في المجلات، كي يتم رسمها ونشرها كقصص منفردة ذات أغلفة لا تُمزّق. فالطفولة ينقصها كل شيء، في الملتقيات تسمعين جعجعة ولا ترين طحيناً، حتى الآن لم أشاهد قصصي التي فازت بالجائزة منشورة منذ ثلاث سنوات، حتى اليوم. ثلاثة وعشرون مليون سوري، معظمهم أطفال ولا يوجد لديهم سوى مجلة واحدة تدعى "أسامة"، ومجلة اسمها "شامة". وأتساءل أين فيلم الأطفال؟ أين أغاني الأطفال؟ أين برامج الأطفال؟ أين مكتبات الأطفال؟ هناك مكتبة واحدة في "اللاذقية" وحديثة تقوم بواجبها على أكمل وجه، لكن هل هذا يكفي؟ مسرح واحد، كالمركز الثقافي، يتم فيه كل شيء. الحركة الثقافية في "سورية" عبارة عن "ماكياج" لا أكثر».

ولدى سؤالنا عن نشاطها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أجابت: «موقع "نتفة حكي" ليست صفحة فقط، بل ابنتي التي تساعدني على التوازن النفسي من الضغوطات الاجتماعية والاقتصادية والطائفية، فهي عين النبع الذي يخرج من أعماق أرض القلب المظلمة، ليرى النور ويفتح عينيه على كل شيء، ويجعل البراعم تتفتح. فتأتي الفراشات؛ أي المشاركين ليلقحوها بحضورهم وتعليقاتهم الذكية، فتزداد الورود وتنتشر الرائحة».

بدورها حدثتنا كاتبة القصة وسيناريو الأطفال "أريج بوادقجي"، فقالت: «عرفت "أميرة سلامة" من خلال ما أرسلته إلى مجلة "أسامة" منذ سنتين تقريباً من أعمال قصصية موجّهة للطفل، وعند قراءتي للنصوص، كانت روحها المرحة والمثقفة والاجتماعية حاضرة في كلّ مقطع، فهي تكتب للطفل عن تجربة حياتية ناضجة، وتبتعد كل البعد عمّا هو نظري منفّر، وأرى أنها تنجح في محاكاة شغف الطفل وحبه لعيش المغامرة بلغة مدروسة وغنية».

القاص "مهند العاقوص" حدثنا عن "سلامة" بالقول: «تملك عيناً جمالية قادرة على التقاط التفاصيل في البيئة، ونقلها إلى المتلقي بقالب أدبي لطيف غير مباشر، والشخصيات في نصوصها تحمل بعداً نفسياً تنحته الكاتبة بقلمها، فيبدو وكأن الشخصيات من المحيط الذي نعرفه جيداً»

يذكر أن "أميرة أنطوان سلامة" من مواليد "دمشق"، عام 1964.