تقرأ في قصائده لغة الطبيعة وتتذوق جمالها المحسوس والمكنون، فالشاعر "محمد صالح" يأخذ القارئ بشعره إلى عوالم البحر والبراري لاستكشافها، ثم صياغتها بقصيدة تبرز الجمال وتتغنى به.

مدونة وطن "eSyria" التقت بتاريخ 29 كانون الأول 2018، الشاعر "محمد صالح"، فتحدث عن أول أربعة عشر عاماً من حياته التي كوّنت نشأته الأولى، قائلاً: «ولادتي ونشأتي في قرية "المكسحة" حتى سن الرابعة عشرة، حيث ساهمت في تكويني الشخصي، وتعرّفت بمفردي إلى العناصر الأساسية لتلك الطبيعة الجميلة وعوالمها الغنيّة، وعشت في بيت علم وكتاب ومعرفة، زوّاره كثر من الأقرباء والغرباء، وهذا المزيج أدى إلى بناء شخصيتي كطفل، وكنت أسمع ما يجب أن أسمعه في تلك السن من حكايات تسهم في تنمية المخيلة؛ خاصة أن الأطفال يندهشون لمشاهدة التلفاز، إنما الحكاية لها طابع مختلف من حيث صوت الراوي وحركاته وانفعالاته المرافقة لرواياتها، وكان والدي قارئاً جيداً، فكل شيء أتى من مقدمة طبيعية في بيت يقرأ ويكتب؛ وهو ما جعلني أنطق اللغة العربية بطريقة سليمة، وكان كتاب القرآن الكريم من أول الكتب التي قرأتها، إضافة إلى ذهابي إلى بيت جدتي في قرية "بسطوير" الذي كان مصدر سعادتي، ولم أكن أعرف أمي، فوجدت فيها الأم البديلة، حيث حاولت أن أصل إلى أمي من خلال وجه الجدة».

بدأت رحلة الشعر بعد الخمسين، فقد كنت أتكلم شعراً وأكتب وأخبئ ما أكتبه لأنني أتهيب منه، فكتابته ليست سهلة، ويجب أن تتوفر فيها شروط كثيرة حتى نبدع بالكتابة، والحقيقة فيما بعد الشعر هو الذي كتبني؛ فبدأت كتابة مقاطع صغيرة، ووجدت أن النضج الداخلي الذي حصل مع الأيام، والتراكم والتجربة بدأ ينقر على الزجاج الداخلي اللا مرئي (الروح) بداخلي ثم تدفق، فالشعر هو ذلك الطائر الحرّ يحلق في السماوات ويغوص في عمق الأرض، لكن لا يراه أحد، إنما نتحسس عبوره، وهو عطر اللغة. أما القصيدة، فهي قبلة اللغة، وأكون مستعداً لتلمسني في أي لحظة مثل الصدمة

ويتابع قوله: «درست المرحلة الابتدائية في قرية "قصابين"، وفي المرحلة الإعدادية كان عليّ الانتقال إلى قرية "القلايع"، وكنت أجتاز نهرين للوصول إلى المدرسة سيراً على قدمي لمدة ساعة ونصف الساعة، فقد اختبرت في هذه التجربة الابتعاد الأول عن المكان الأول، وفي عام 1971 انتقلت للعيش في مدينة "جبلة"، ودرست الثانوية في مدرسة الشهيد "محمد سعيد يونس"، ثم كانت النقلة النوعية أثناء دراستي اللغة الإنكليزية في جامعة "حلب"، فتلك المرحلة صقلتني مرة أخرى. قرأت في السنة الثالثة التراث العربي شعراً ونثراً مع المقارنة بينهما، واستمرت الرحلة أربعين عاماً في عوالم الأدب العربي والإنكليزي والعالمي، كلها كوّنت مخزوناً ثقافياً ومعرفياً، فنحن نتكون مما زرعه الآخرون، وفي مرحلة ما نصل إلى الخطوة أو الكلمة الخاصة بنا».

في أحد المعارض الفنية

على الرغم من تجاربه الشعرية المخبأة ولغته الفصيحة وغيرها من المقومات، تأخرت رحلته في نظم الشعر، ويتحدث عن بدايته الشعرية قائلاً: «بدأت رحلة الشعر بعد الخمسين، فقد كنت أتكلم شعراً وأكتب وأخبئ ما أكتبه لأنني أتهيب منه، فكتابته ليست سهلة، ويجب أن تتوفر فيها شروط كثيرة حتى نبدع بالكتابة، والحقيقة فيما بعد الشعر هو الذي كتبني؛ فبدأت كتابة مقاطع صغيرة، ووجدت أن النضج الداخلي الذي حصل مع الأيام، والتراكم والتجربة بدأ ينقر على الزجاج الداخلي اللا مرئي (الروح) بداخلي ثم تدفق، فالشعر هو ذلك الطائر الحرّ يحلق في السماوات ويغوص في عمق الأرض، لكن لا يراه أحد، إنما نتحسس عبوره، وهو عطر اللغة. أما القصيدة، فهي قبلة اللغة، وأكون مستعداً لتلمسني في أي لحظة مثل الصدمة».

يجني قصائده من الطبيعة والبحر، وذهابه اليومي إلى طبيعة ريف "جبلة" وبحر مدينتها؛ حيث نسج علاقة معهما، وهنا يتحدث قائلاً: «أتناول بقصائدي الإنسان والطبيعة، وهناك حركة يومية أساسية إلى شاطئ البحر أو الغابات والطبيعة، هذه الحركة خلقت علاقة تماهٍ مع الطبيعة والبحر، ومن لا يشتبك مع العالم لا يراه، فالعالم لا يقبل علاقة بعيدة، وكي أراه أنشبك معه؛ وهنا تكمن أهمية التجربة. لا أستطيع أن أكتب أي مكوّن من دون رؤيته، ومتعتي تتحقق بمشاركة الآخرين بالجمال في أشياء الوجود، ووصلت إلى لغة الطبيعة بالاقتراب وملامسة "جوانيتها" الداخلية، فلا أمرّ مروراً عابراً أمام أشياء الوجود، وأرى الذي لا يرى، وهناك ميل أو نزوع شخصي لعيش كل لحظة بامتلاء طبيعي وحقيقي، أما البحر، فهو عالم ساحر يمنحني العذوبة».

زهير خليفة

نجد قصيدة النثر لدى الشاعر "محمد صالح" كنبع لا ينضب، حيث يوثّق من خلالها اللحظة الزمانية والمكانية، فيقول: «لا حدود للأشكال التي تقترحها اللغة على الإنسان؛ لذا ليس هناك شكل واحد للكتابة شرط أن تكون الكتابة فنية، ولكوني من قرّاء الشعر العربي الكلاسيكي أعرف أين يكمن جماله واستثناؤه، وأين يجب الابتعاد أو الاقتراب منه، ومن يمتلك المهارة الفنيّة والحسّ واللغة يكتب بلا حدود، ويغدو الشكل أمراً عادياً، فقد كتبت قصيدة التفعيلة المرتبطة بحالات واقعية عشتها، فقصيدتي هي المكان الذي يلتقي بها الإنسان اللغة والعالم، وأمتدح الحياة فيها، فالجمال هو الغاية التي أبحث عنها وأحاول إيصالها. كما أوثّق بقصيدتي اللحظة الزمانية والمكانية، وأستكشف جمال ريفنا الجميل بكل تضاريسه أثناء ممارسة هوايتي في تسلق الصخور منذ الطفولة حتى هذا اليوم».

ومن شعره اختار لنا قصيدة بعنوان "منمنمة إلى الخريف" جاء فيها:

"يلمسني الخريف..

فتتناثر قصائدي زرقاء

مثل أزراره

يلمسني..

للخريف حافة

للنبيذ حافتان..

ولي ما تبقى

زرقة الخريف..

قصائد بيضاء..

بيضاء جداً.. يا جدي

زرقة الخريف".

أما الفنان التشكيلي "زهير خليفة"، فقد تحدث عنه قائلاً: «ليس شاعراً وأديباً فحسب، بل هو شخص متميز بكل شيء، ومثقف وجامعي، حيث يمتلك الذوق الرفيع والإحساس المرهف، وحبّه للجميع وعشقه لمكونات الطبيعة والخلق أجمعين أكسبه لقب شاعر الحبّ والطبيعة، لم أشاهد له عدواً غير التخلف والجهل، وأعشق كتاباته بكل أنواعها. كما يتميز بأسلوبه العلمي المحبوب في التعليم ويغوص في الطبيعة عميقاً ويتحد ويتماهى معها، وهناك علاقة متوهجة بينه وبينها وبين الصورة والكلمات، كما تعنيه الشجرة وعمرها وتشكيلها والضباب والغيمة والريح والشمس والقمر، والعنزة في الجرد، والعصفورة وحركاتها، والفراشة، وتفاصيل كل ما يراه لتوظيفها بشاعرية».

يُذكر، أن الشاعر "محمد صالح" من مواليد قرية "المكسحة" التابعة لمدينة "جبلة" عام 1957، درّس اللغة الإنكليزية أكثر من ثلاثين عاماً، ولا يحبّ إلقاء الشعر في الأمكنة المغلقة، بل في اتساع العالم مع الأصدقاء على شاطئ بحر، أو في أحضان الطبيعة، أو على قمة جبل.