أُرغمت على مغادرة مدرستها مبكرة لكونها لا تمتلك ثمن حذاء؛ لتعود إلى الدراسة مع أبنائها، وتنذر حياتها لخدمة المرأة والنهوض بواقعها. ليتحول في ظل الأزمة إلى عطاء من نوع آخر؛ فتكون من المؤسسين الأوائل لعدد من المجموعات التطوعية لمساعدة المهجرين وأُسر الشهداء.

«التطوع هو العطاء بلا حدود أو مقابل؛ هو اندفاع ذاتي، واستمتاع برسم البسمة على وجوه الناس. بالنسبة لي هو استمرار لحياتي، واليوم الذي لا أتمكن من تقديم العون لمن هم بحاجة لا أعدّه من حياتي»؛ هذا ما بدأت به "هناء الزلق" حديثها لمدونة وطن "eSyria" التي التقتها بتاريخ 6 شباط 2017، وتضيف عن بداياتها بالقول: «في قرية "زعورة" إحدى قرى "الجولان" كانت ولادتي عام 1950، ضمن أسرة كادحة تكاد لا تتمكن من جمع قوت أطفالها السبعة. التحقت بالمدرسة، وكان لوالدي رغبة كبيرة بذلك، لكن الفقر كان المنتصر لينتزعني من مقاعد الدراسة لكوني لا أمتلك ثمن حذاء أنتعله في طريقي إليها. أُرغمت على الجلوس بالبيت، وتحمّل مسؤولية إخوتي لكون والدتي تساعد والدي بالزراعة. لم أستكن للواقع؛ وبدأت تعلم الخياطة بمفردي في سن العاشرة، وفي الثانية عشرة بدأت أخيط ملابسي وملابس إخوتي، وعندما بلغت الخامسة عشرة تزوجت من رجل فقير؛ وهو ما اضطرني للمتابعة بمجال الخياطة والتريكو، وبعد عام على زواجنا كان النزوح إلى "دمشق"؛ هنا بدأت المعاناة حيث لا منزل ولا عمل، وشاء القدر أن أفقد زوجي بعد خمسة أعوام على زواج كان ثمرته طفلان».

التطوع هو العطاء بلا حدود أو مقابل؛ هو اندفاع ذاتي، واستمتاع برسم البسمة على وجوه الناس. بالنسبة لي هو استمرار لحياتي، واليوم الذي لا أتمكن من تقديم العون لمن هم بحاجة لا أعدّه من حياتي

وتتابع عن رحلة حياتها: «جمعت أفكاري وإرادتي، وانطلقت أبحث عن عمل؛ فعملتُ مع أحد تجار "الحريقة"، وفي عام 1972 انتسبت إلى "الاتحاد النسائي"، حيث كانت بداية عملي بمجال التطوع، لكن في ظل كل تلك المسؤوليات لم يغب عن ذهني حلمي القديم بمتابعة دراستي؛ كنت أنتهز أي فرصة للجلوس مع طفليّ لأتعلّم منهما، فاشتريت منهاجاً لمحو الأمية، وتمكّنت من تعلم القراءة والكتابة، لأنطلق بعدها معهما، لكن ذلك لم يشبع رغبتي، فأردت إغناء ثقافتي بالمطالعة».

مع أحد الفرق التطوعية

وعن عملها بمجال التطوع تضيف: «في عام 1975 تفرّغت بالكامل للعمل مع الاتحاد النسائي، ووضعت خبرتي وجهدي بقصد تعليم المرأة حرفة تُؤمن لها مصدر دخل، إضافة إلى تمكينها ثقافياً وتوعيتها صحياً. وخلال عملي لمدة أربعين عاماً لم تبق أي منطقة في "دمشق" وريفها إلا ونظّمت فيها دورات بالخياطة والتريكو، وصناعة الورد، وإعادة التدوير لسيدات يبحثنَّ عن فرص للعمل، وخلال تلك السنوات نجحت بتخريج المئات منهنَّ. لكن دوري لم ينتهِ عند ذلك، فكان لا بد من تأمين فرص عمل لهنَّ في كل من القطاعين الخاص والحكومي، حيث تم رفدهما بالكثيرات من العاملات الخبيرات، وكنت أقوم بجولات ودورات على نفقتي الخاصة من دون أي مقابل.

انطلقت بعدها إلى المحافظات، حيث نظمت دورة في محافظة "حماة" لحماية البيئة، وأخرى في "طرطوس". وفي نهاية كل دورة كنا نقيم معرضاً لعرض نتاج السيدات، وتكريم المتميزات منهنّ، كما أسّست بالتعاون مع "ماري حداد"، و"ليزا أنزور" فروع الاتحاد النسائي في كل من "القنيطرة" و"ريف دمشق"».

جانسنت قازان

أما عن جولاتها المنزلية إلى بيوت النساء والهدف منها، فتضيف: «عملي بمجال التطوع لم يقتصر على الدورات التدريبية، بل تعدى ذلك إلى القيام بزيارات منزلية، التي أعدّها من أكثر مجالات عملي أهمية؛ دخلت بيوت الناس، وتعرفت مشكلاتهم عن قرب حتى وصلت إلى التدخل بحل النزاعات بين الأزواج، وهناك من لم تتمكن من مغادرة منزلها لسبب أو لآخر، فذهبت إليها ودربتها في منزلها، وساعدتها بفتح ورشة داخل منزلها لتكون مصدر رزق للعائلة ككل، وفي كل زيارة كنت أُعمل بإصرار على تثقيفها إلى جانب تدريبها على العمل وزيادة وعيها بطرائق شَّتى. وتأتي ثمرة نجاحي خلال عملي بالاتحاد عندما تم اختياري من قبل وزارة التربية لتعليم طالبات المدارس "التريكو"، وكل ما قمت به خارج نطاق عملي الوظيفي كان تطوعياً».

ولأن التطوع ليس مرتبطاً بمكان وزمان؛ انطلقت من جديد بعد تقاعدها، وهنا تتابع قائلة: «غادرت عملي بسبب بلوغي سنّ التقاعد، كان ذلك في بداية الحرب على بلدي، لكنني أدرك أنني ما زلت قادرة على العطاء. بدأت من جديد بذات الفكر، لكن بطريقة مختلفة؛ فالعطاء هنا لا يقتصر على المرأة، حيث تغيرت الحاجات والأولويات، بدأت العمل بالتوازي بين المجال المادي والمعنوي، وكنت من الأوائل الذين نزلوا إلى الشوارع للتنديد بالحرب، وصلت إلى النساء المهجرات في مراكز الإيواء لتعليمهن الخياطة والتريكو، وكافة الأعمال اليدوية، إضافة إلى المحاضرات التثقيفية والصحية وتأمين ماكينات الخياطة بمساعدة مؤسسات وجمعيات خيرية، ومنهنَّ من تمكنَّ من مغادرة مراكز الإيواء، وتأسيس مشاريعهن الخاصة».

بعض شهادات التقدير

الدكتورة "سحر البصير" مديرة فريق "النحل التطوعي"، تقول: «بدأت إدارة العمل اليدوي عام 2011 بالتعاون مع سيدات من شرائح مختلفة، وكانت "هناء الزلق" من أوائل المساهمات في إنجاح العمل إيماناً منها بتكاتف الجميع لإنقاذ البلد، ومنذ اللحظات الأولى كانت عنصراً فاعلاً؛ فعَملت بصمت، ولم يكن من السهل على امرأة أن تفترش الأرصفة، وتقص الأقمشة لإعادة تدويرها، وتقديمها إلى المحتاجين. هي متطوعة إيجابية تقدم جهدها ووقتها من دون السعي إلى إظهار نفسها، تحتفظ دوماً بابتسامة الرضا لبث روح الطمأنينة في نفوس من حولها».

بدورها "جانسيت قازان" رئيسة مجموعة "سيدات سورية الخير"، تقول: «"هناء الزلق" من السيدات الأوائل اللواتي آمنَّ بفكرة التطوع منذ سنوات أثناء عملها بالاتحاد النسائي، وهي عضو فعال في الكثير من الجمعيات الخيرية، مندفعة إلى العمل التطوعي منذ بداية الحرب على "سورية"، كما عملت على زرع مفهوم الوطن بعقول أطفالنا من خلال جولاتها على مراكز الإيواء، قدّمت الكثير لأسر الشهداء والجرحى بزيارتهم، وجمع التبرعات لدعمهم».

يذكر أنّ "هناء الزلق" من المؤسسين الأوائل لعدد من المجموعات التطوعية، مثل: فريق "النحل التطوعي"، وفريق "لبينا الندا"، و"سيدات سورية الخير"، و"جدايل سورية"، و"شباب سورية وطني"، وغيرها. وقد نالت العديد من شهادات التقدير.