لا يزال يبحث عن مجد يهديه لوطنه ولو بزحمة ذكريات يجمعها في عدسة كاميرته ليتركها إرثاً لمن بعده، وبصوره يسعى إلى تخليد اسم "سورية" بكل ما فيها من جمال. عاشق الطبيعة، ترعرع في "الجولان"، وركض في جنباته وحقوله، وأكل من خيراته، وتعلم أولى دورس الحياة على أرضه.

عن بداياته تحدث المصور "مهند شاهر البيضة" لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 4 نيسان 2018، بالقول: «كنت طفلاً حين قلبت صور الماضي التي حفظتها طيات مجلد صور أبي، موثقة أيام شبابه بكل تفاصيلها، فقد كان شغوفاً بتوثيقها وحفظها، وكنت أسافر مع كل صورة إلى تلك الأماكن والأزمنة، فلم أكن قد أبصرت النور حين توقفت اللحظة مع ضغطة الزر، لتجعل منها جسماً لا زمناً، كان شعوراً غريباً يرافق كل ورقة ألمسها، وأشم رائحة المكان الذي حفظته، والزوايا التي خلدتها، فمنها ما تستطيع العودة إليه في زمنك وتقارن التغير الذي طاله، ومنها ما استحال حتى الوصول إليه.

يمتلك "مهند" عيناً جميلة تلتقط المميز من الصور، وعنده القدرة على تمييز الجمال ورؤيته بكل تفاصيله، وصل إلى مرحلة متطورة ومتميزة في صناعة الأفلام الوثائقية والروائية، شاب طموح وموهوب، لديه إصرار وشغف على التعلم والمتابعة في مجال التصوير وصناعة الأفلام

أصبح شغفي كبيراً مع كل حدث يمر بي، فيقتلني عشق اللحظة والمكان، وأغدو حالماً في أن أبقيه معي متى طلبته، وما كنت أجد أفضل من التصوير كي أروي ذاك العطش، وكانت البداية مع آلة تصوير والدي التي وجدتها في زوايا خزانته، والتي كانت تقدم صوراً بإمكانيات متواضعة».

"مهند شاهر البيضة"

شغفه بالمعرفة والتعلم كان حافزاً للسعي وراء المعلومة، فلم يدخر جهداً أو وقتاً للبحث عن آليات تساعده في الولوج إلى عالم التصوير وفق أسس علمية صحيحة، وعن ذلك يضيف: «لم أكن أتكبر على أي معلومة من أي شخص، كل ما كان يغني معرفتي ويزيد خبرتي كان مؤثراً، فكانت المعلومة أكثر تأثيراً من الأشخاص، وحامل كل معلومةٍ هو مؤثر بطبيعة الحال، وأنا أكن الاحترام لكل شخص وضع خبرته في طريقي، سواءً كان ذلك عمداً، أم مصادفةً. تنقلت بين الكثيرين منهم سواء بالتقائهم شخصياً أو مطالعة صفحاتهم على الشبكة الإلكترونية، وكان لكل منهم أسلوب مختلف، وقد نهلت من كل تلك الأساليب، وصنعت أسلوبي الخاص».

وعن علاقته بالتصوير، يقول: «من أحب لا يألو جهداً لبذله لمن أحبه مهما صعبت الطرق إليه، ففي التسعينات، كان فن التصوير حكراً على مجموعة من المحترفين، ويندر تعلمه لغلاء مقوماته وقلة معلميه، لكن تجاوزي لأول خطوة في طريق الألف ميل، بفضل ما وجدته من مقتنيات والدي، جعلتني أذلل بعض الصعوبات في البداية، وأمارس هذا الفن بأضيق حدوده وأكثرها تواضعاً.

جامع خالد بن الوليد في "حمص" بعدسة "مهند البيضة"

ومع مضي الأيام واشتداد العود والاعتماد على النفس، طورت تلك الموهبة تدريجياً حسب المستطاع من مادة ووقت، ومع تقدم التقنية وانتشار المعرفة بواسطة التكنولوجيا الحديثة، زادت معرفتي وشغفي طرداً، وامتلكت أول آلة تصوير احترافية تواكب العصر بعد سنوات عديدة وطويلة من العمل والاجتهاد، وبدأت بها خطوات كثيرة في الحلم لإتمام طريقي الذي بدأته.

وهي أقرب إلى وصفها بالعشق، فإننا نزاول الكثير ونعشق القليل، ونادراً ما نضحي من أجل معشوقنا، لكن التصوير هو العشق الذي لا تفكير في خيار التضحية لأجله مادياً ومعنوياً، فقد أخذ الوقت والمال، واستحوذ على التفكير والمستقبل، فيه آمنت بأن الذاكرة لا تموت مع الزمن، وبه أوقفت اللحظة متى أردت، واستعدتها متى شئت، وخلدتها لمن أتى وسيأتي ليعلم أي بيئة عشت فيها، وأي بيئة وصلت إليه.

"حسان الأخرس" مع "مهند البيضة" أثناء العمل

تشدني المناظر الطبيعية والآثار، ففي الأولى تظهر عظمة الخالق وإتقانه، وتدفعك دقته في حيرة وتسبيح يمتزج في عدستك فلا تدري أي زاوية تأخذ وأي إطار تحتوي، وأي جمال أولى بتوثيقه ونقله لمن لم يشاهده، وفي الثانية تتبع خطوات من رحلوا، فمنهم من يحملك آلاف السنين، ومنهم من يحملك حتى لساعات متتبعاً أثراً حديثاً لكائن أو ظاهرة تسارع لنقلهما لمن فاتهم حضورها، وللآثار أيضاً حضور آخر في الزمان، فيأخذك في كل ضغطة زر ذاك الشعور المحير والسؤال الصعب، هل سنترك لأجيالٍ لاحقة ما يوثقوه عنا؟»

وعن "الجولان" في عدسته، قال: «"الجولان" كان وسيبقى الملهم الأول والأخير، وكما اعتدت تسميته (جنة الله على أرضه)، ولا أبالغ في ذلك، بل أنقصه الكثير مما حباه الله به من جمال، فمن رأى غير من سمع، وما حملته ذاكرة الأجداد وهو نسج ذاكرة كان مبهراً، فكيف هو الواقع؟

واظبت على سرد حكاياتي عنه في أي جلسة ومع أي شخص، وكنت أختلق الحديث عنه حتى لو لم يكن في صلب النقاش، وأدافع عن جماله وكأنه البقعة الوحيدة التي تستحق العيش فيها، لكن مع كل تلك الاستماتة والتعصب -إن جاز التعبير- كان هناك نقص حجة وقلة برهان، فالعين أصدق من الأذن، ودليلي يندر وجوده، فكان منهم المصدق، ومنهم المشكك، فما وجدت دليلاً أصدق وأقوى من الصورة، وما وجدت مكلفاً بالنقل أحق مني، فما نفع العلم من غير عمل، وما نفع إلحاق كلمة مصور بي وما استطعت نفع من عشقت بها. نعم "الجولان" كان الملهم، وانتقل الإلهام ليشمل كل بقعة استطعت الوصول إليها في الأرض المقدسة "سورية"».

وعن لقطاته، يضيف: «ربما أبالغ إن وصفت جميع صوري بالمحببة لي، فمنها ما ألتقطها في رحلة وفي جمعٍ من الناس، فتأتي سريعة تفتقر إلى بعض الاحترافية، ومنها ما أضع فيها كل تركيزي ووقتي -وإن طال- فتخرج كقطعة من الروح أعشقها وتحملني إلى ذاكرة المكان والزمان كلما مررت عليها، فكانت إحداها تلك التي التقطها في "دير سمعان" العمودي في إحدى الرحلات التي اتسمت بطابع التوثيق والمرح معاً، فكانت داخل الدير وعشت تفاصيل ذاك المكان كأنني فيه قبل مئات السنين».

عنه قال "حسان الأخرس" أحد مؤسسي مجموعة "سيريا بيديا": «حافظ "مهند البيضة" على وجوده في جميع الرحلات التي قامت مجموعة "سيريا بيديا" بتنسيقها لتزور كل شهر منطقة أثرية داخل "سورية"، وهذا دليل على التزامه. كما رصد الجانب الاجتماعي مع الهدف الأساسي للرحلات، التي كانت تتجلى في تشجيع السياحة الداخلية إلى الأماكن الأثرية. الفرح يميز أعماله، وأنا كأحد المؤسسين للمجموعة التي تضم عدداً من المصورين الضوئيين البارزين، كنت مستمتعاً بمراقبة تطور أعماله بين شهر وآخر. ما يجذبني إلى أعماله، حسن اختياره للمشهد، وطريقته الخاصة بغمس هذه اللقطات بالضوء وإخراجها بطريقة مدهشة ومتفردة، وأستطيع أن أجزم أن هذه الثنائية؛ "مهند" والكاميرا، جسد واحد، وروح واحدة».

المخرج السينمائي "المنذر كلثوم"، يقول: «يمتلك "مهند" عيناً جميلة تلتقط المميز من الصور، وعنده القدرة على تمييز الجمال ورؤيته بكل تفاصيله، وصل إلى مرحلة متطورة ومتميزة في صناعة الأفلام الوثائقية والروائية، شاب طموح وموهوب، لديه إصرار وشغف على التعلم والمتابعة في مجال التصوير وصناعة الأفلام».

الجدير ذكره، أن "مهند شاهر البيضة" من مواليد محافظة "القنيطرة" عام 1982، مساعد مهندس طباعي، عمل على توثيق الآثار السورية، وتوثيق الحياة البرية والطبيعية عن طريق التجوال والتخييم مع جمعية "أنا سوري" لمدة ثلاث سنوات، وشارك في عدة أفلام وثائقية، كما عمل في مجال السينما السورية في زمن الحرب، وشارك في عدة أفلام "سينما الشباب"، وفيلم احترافي عن الحب في زمن الحرب، تحت اسم: "على سطح دمشق".