حرفة المخاطر التي لفظت أنفاسها منذ سنوات، واندثرت بعد انتفاء الحاجة للخيول والحمير كوسيلة تنقل، وأصبح من يمارسونها يُعدون على أصابع اليد لرحيل صُنّاعها القدامى وعزوف الجيل الجديد عن تعلمها لأنها مهنة بلا مستقبل كما يقول بعض من يزاولها اليوم.

حرفة "البيطار"، التي حدثنا عنها المعمّر "فياض كريم الفياض" من مواليد 1939 في قرية "سكوفيا" في "الجولان" المحتل عند لقائه بمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 12 أيلول 2018، حيث قال: «احتضنت البيئة الجولانية العديد من الحرف والمهن والصناعات، فهي ذات مناخ فريد يتطلب مِهناً خاصة به فريدة عن غيرها من الرقع الجغرافية، وبما أنها منطقة ريفية، وفيها جميع أنواع المواشي، وأغلب السكان يعملون بتربيتها، إضافة إلى غيرها من الأعمال؛ لذا وُجدت حرفة "البيطار"، والبَيْطار كما ورد في معجم المعاني هو معالج الدواب، ويسمى أيضاً في بعض المجتمعات (الطبيب البيطري) وجمعها (بياطير)، وقيل (استولد البيطار الماشية)؛ أي جعلها تتوالد خاصة بالتزاوج المنظم، كانت الخيول آنذاك منتشرة بكثرة في "الجولان" وهي رفيق الإنسان في حلّه وترحاله؛ لذا كان عليه أن يؤمن لهذا الحيوان وسائل متعددة لحمايته ورعايته، ومن هنا أتت مهمة البيطار لحماية هذه الحيوانات وتقديم كل ما يلزم لحمايتها».

لطالما كنت أستمتع بالجلوس عند جاري البيطار "حسين علي غانم" رحمه الله، وأنظر إلى عمله الشاق، أذكر تماماً أنه كان يقوم بقصّ زوائد الحوافر بعناية شديدة، ثم يضع الحذوة التي تشبه حرف "U" باللغة الإنجليزية على حافر الحصان، وأغلب الأحيان تكون مصنوعة من الحديد، ثم يأتي بالمسامير الخاصة ويقوم بالتثبيت محاولاً عدم إلحاق الأذى بالحيوان، إذ وضع المسامير يحتاج إلى حرفية عالية ويجب أن تكون بعيدة عن اللحمية أو الظاهر الحي من الحافر، وتساعد هذه الحذوة في حماية الحافر من التلف وتشقق الأنسجة الحساسة في حافر الخيل، كما يساعد في إبطاء معدل نمو وزيادة طول الحافر وامتصاصه الصدمات

يضيف "الفياض": «في هذه البيئة الجولانية حيث شاعت أسماء العديد من الحرفيين المهرة الذين كانوا يصنعون مستلزمات الخيول، ومنهم في قرية "فيق" "أبو سليمان البيطار"، الذي كان أهل القرية يطلقون عليه "ناعل الخيل"؛ لأنه كان يقوم بتصنيع "حذوة" الحصان، وقد كان يمتلك خبرة كبيرة، وله "فنيات" في تركيب هذه المفردات ليس للخيول فقط، وإنما لبعض الحيوانات الأخرى، كالبغال والحمير والدواب التي تُستخدم للعمل الشاق، إلى أن بقيت الخيول هي الأساس في هذه الحرفة التي رحلت مع أصحابها وزالت من تقاليد مجتمعنا نتيجة الدورة الحياتية والتطور في وسائل النقل والانتقال، وبقيت جزءاً من تراثنا الذي يربطنا ويذكّرنا بالأجداد والأصول».

"فياض الفياض" عام 1955 في قرية "سكوفيا" في "الجولان"

عن المتاعب التي كانت تواجه "البيطار" المعمّر "علي هزيمة" من مواليد قرية "جباثا الخشب" عام 1937، يقول: «لطالما كنت أستمتع بالجلوس عند جاري البيطار "حسين علي غانم" رحمه الله، وأنظر إلى عمله الشاق، أذكر تماماً أنه كان يقوم بقصّ زوائد الحوافر بعناية شديدة، ثم يضع الحذوة التي تشبه حرف "U" باللغة الإنجليزية على حافر الحصان، وأغلب الأحيان تكون مصنوعة من الحديد، ثم يأتي بالمسامير الخاصة ويقوم بالتثبيت محاولاً عدم إلحاق الأذى بالحيوان، إذ وضع المسامير يحتاج إلى حرفية عالية ويجب أن تكون بعيدة عن اللحمية أو الظاهر الحي من الحافر، وتساعد هذه الحذوة في حماية الحافر من التلف وتشقق الأنسجة الحساسة في حافر الخيل، كما يساعد في إبطاء معدل نمو وزيادة طول الحافر وامتصاصه الصدمات».

يضيف "علي": «يُقال إن "الجولان" كان موطناً لمثل هذه الحرف قبل عام 1967، لما لهذه المنطقة من موقع استراتيجي، ومحطة مهمة لطرق القوافل القادمة من "دمشق" إلى "فلسطين" وبالعكس، وكانت الورشات الحرفية منتشرة على طرق التجارة وتقوم بتصنيع ما تحتاج إليه هذه الخيول وغيرها من أدوات، إضافة إلى الأدوات الزراعية المختلفة التي يحتاج إليها سكان هذه المناطق من الفلاحين، وقد كانت تصنع الحذوة من الحديد أو الصلب، وتختلف في شكلها وحجمها ما بين القطعة الرقيقة من المعدن إلى الحذوات الثقيلة ذات الأسنان الحادة للخيول التي تجرّ الأثقال، ويرجع استخدامها إلى القرن السادس قبل الميلاد، إذ يُقال إن الرومان سكنوا "الجولان" في فترات سابقة استخدموا لخيولهم حذوات من الحديد مركبة في أحذية جلدية، وكان لهم بعض الشيء من الخرافة تجعل من الحذوة تميمة تجلب لحاملها الحظ السعيد، وورد هذا المفهوم كثيراً في كتب التاريخ القديم وفي معظم الحضارات، وها هي قد اندثرت ورحلت هي وأصحابها، ولم يبقّ منها سوى ذكرى دُوّنت في تراثنا الجولاني الأصيل؛ لكونها كانت حرفة الخيول الأصيلة التي كانت منتشرة في "الجولان" آنذاك».

تركيب حذوة الخيل
"الجولان" عام 1955