موسيقا لا تسمعها خارج ورشة العم "نسيب عزقول" في قرية "قنوات"، هي طرقات على معدن مذاب، وذاكرة العمل اليدوي لحدادة نقلها عن الأب والجد، وابتكر طريقته الخاصة.

صدٌّ وردٌّ هي طرقاته ليجعل سكة المحراث البدائي صالحة للعمل، مكوناً بقوة عضلية وحرفية عالية قطعاً نادرة تحسبها للوهلة الأولى نتاج التقنية الحديثة، وهي في الواقع عمل يدوي خالص ونتاج مهنة حافظ عليها الحداد "نسيب عزقول" ليبقى الوحيد في محافظة "السويداء"، الذي قدم نموذجاً لحالة حرفية متعددة، لا تتوقف عند تصنيع القطع الزراعية، بل تصميم وابتكار كل ما يحتاج إليه، كما تحدث عبر مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 29 تشرين الثاني 2017، وقال: «أسرار هذه المهنة اكتشفتها بالعمل مع والدي الذي علمني كيف أتعامل مع الفولاذ بصبر ومهارة لأصنع منه مجموعة كبيرة من القطع التي كانت عماد العمل الزراعي في السابق، فقد كنا نلبي طلب الفلاح ونصلح ونصنع احتياجاته من هذه القطع، لكن الزمن تغير ودارت عقارب ساعته على هذه المهنة، ويستغرب كل من زارنا أن ورشتنا لم تتوقف وبقيت لها خصوصيتها لتكون خدمة للفلاح وكل من اهتم بالعمل الزراعي».

أسرار هذه المهنة اكتشفتها بالعمل مع والدي الذي علمني كيف أتعامل مع الفولاذ بصبر ومهارة لأصنع منه مجموعة كبيرة من القطع التي كانت عماد العمل الزراعي في السابق، فقد كنا نلبي طلب الفلاح ونصلح ونصنع احتياجاته من هذه القطع، لكن الزمن تغير ودارت عقارب ساعته على هذه المهنة، ويستغرب كل من زارنا أن ورشتنا لم تتوقف وبقيت لها خصوصيتها لتكون خدمة للفلاح وكل من اهتم بالعمل الزراعي

تصنيع سكة المحراث القديم تجربة تابعناها بمتعة وأشعل شارة بدايتها مع نار على الفحم الحجري، وقال: «نشعل النار في فرن مخصص وقوده الفحم الذي نحصل عليه من المصافي، ونستخدم وسائلنا القديمة التي تنفخ الهواء، وهي "كور" قديم تجاوز عمره مئتين وخمسين عاماً، ويحتاج إلى جهد كبير ليعمل، وبقيت زوجتي لسنوات تساعدني بدفعه حتى كبر الأولاد، إضافة إلى وجود قطعة يدوية لا يقل عمرها عن ستين سنة نستعملها أيضاً، وهي من أيام الفرنسيين، وتقوم بذات العمل. وفي الحالتين، يمكننا الاستغناء عن الكهرباء بالكامل.

العم نسيب مع ابنه ضياء الذي يدفع الكور وهو قطعة يدوية عمرها تجاو 200 عام

على هذا الجمر وحرارة 1000 درجة نخرج القطعة بالملاقط المخصصة، وأبدأ مع ابني الطرق في عملية حسم القطعة لتأخذ الشكل المطلوب. وللطرق أصول ومكان محدد، ووقت لا يتجاوز الدقائق، لتبرّد بعد الانتهاء بالماء، ثم نشتغل عليها بالصقل لتكون وفق القياس والشكل المطلوب، وهي عملية تحتاج إلى كثير من الجهد، لكنها من أجمل المراحل التي أتقنتها طفلاً ونقلتها إلى أولادي كي لا تختفي هذه المهنة، وليحافظوا عليها بكل أسرارها ومعارفها الغنية التي علمتني معنى الحياة وتجاوز صعابها بقوة العمل والصبر».

استثمار المخلفات المعدنية وتدوريها مشروع تبناه بفعل امتلاك الخبرة، وقال: «عملت سنوات طويلة لأزيل حاجز العجز عن إنتاج قطع نادرة تحقق غايتنا وتيسر العمل، فمن خلال التجربة، وعلى الرغم من التطور الكبير، بقيت التقنية عاجزة عن تقديم حلول تناسب احتياجات عمل الفلاح في منطقتنا، لأصمم الفؤوس والمعاول ونصول الشفرات الكبيرة و"المهدات" المختلفة، وهي قطع لتقصيب حجارة البازلت، من أقسى أنواع الفولاذ، وصنعنا منها قطعاً لا توجد لها بدائل صناعية محلية، وإن وجدت، فهي غالية الثمن.

عملية الطرق لحسم الحديد المذاب أولى مراحل العمل

وبما أن إصلاح المركبات الكبيرة والآلات الضخمة يتلف قطعاً فولاذية أسطوانية ومستوية ضخمة وتصبح خارج الخدمة، جعلت من هذه القطع مصدراً للرزق لأنني أعرف بدقة كيف أستفيد منها، وأتمكن من إنتاج أنواع أكثر صلابة ومناسبة لقساوة صخور المنطقة وحجارتها، وكانت تدهش الكثيرين عندما أطورها وأغير شكلها لتتحول إلى أزاميل وأنواع من "المخل" التي تستخدم في تنقيب الحجارة وقطع لتشقيفها، وتصبح قطعاً مساعدة للعاملين في مهن مختلفة، وأرغب بتعريف المجتمع بهذه المهنة لاستثمار كتل معدنية تسيئ للبيئة بوضوح في الوقت الذي يمكن الاستفادة منها بعدة طرائق، والمطلوب هنا الخبرة فقط».

يتابع: «في مرحلة معينة كنت بحاجة إلى تجديد القطع، خاصة أنني أنتج معدات بقياسات لا تتوافر لها معدات جاهزة؛ إذ أقوم بتصنيع القطعة وفق طلب وحاجة طالبها، ومن القطع المعدنية التالفة صنعت الملاقط بقياساتها المختلفة ومقصات لقص الفولاذ، وأنواعاً بأحجام مختلفة من المعدات لها احتياجات في العمل إلى جانب "الفؤوس" و"المهدات"، وهي من معدات تقطيع الحجر، بقياسات وأوزان مختلفة تمثل مقتنيات الورشة، ليكون كل ما أعمل به من صناعة يدي وقمت بتعليم أولادي، ونحن نتعامل مع الحديد إلى جانب الخشب لتصنيع أيدي الفؤوس، نقصها وفق القياس، وصنعت لهذه الغاية قطعاً مثل "الفارة" التي تسوي الخشب، والقطاعات، وتشكيلة تدفع الزائر إلى السؤال لكونها لا تتوافر إلا في ورشتي؛ لأنها تصنيع ذاتي؛ وهذه ميزة نحافظ عليها ليبقى العمل يدوياً بالكامل».

مع الباحث كمال الشوفاني

الباحث "كمال الشوفاني" زائر دائم لورشته، وثّق جانباً من عمله الذي حفظ المهنة من الاندثار، وقال: «"نسيب" الحداد العربي الوحيد في المحافظة، وربما في المنطقة. بقي وفياً للفلاح القديم لكون عمله مرتبطاً به، خاصة بما يتعلق بالمحراث المخصص للأراضي الوعرة، هذا الرجل ليس مجرد حداد، وهو بكل ثقة مبتكر ومتميز؛ فعلى سبيل المثال كل الأدوات التي يعمل بها يصنعها بنفسه، حيث قادته معرفته إلى صناعة أدوات وفق رغبته ترضي فضوله، حيث استخدم قطعاً مهملة، مثل: "اكس" سيارة قديم أعاد تدويره، وهذا موضوع بغاية الأهمية في مجال استخدام النفايات الصلبة بطريقة إيجابية.

وكما تعلّم المهنة من والده، نقلها إلى أولاده؛ وهذا مؤشر لبقاء المهنة، ونلمس لديهم ذات الرغبة بالعمل والابتكار، ومن وجهة نظري، المفترض أن يقدم له الدعم؛ كتأمين مستلزمات العمل، مثل الفحم الحجري، هذا بالجانب العملي، أما على المستوى الثقافي، فلا بد من توثيق عمله، خاصة من وزارة الثقافة، دائرة التراث، لكونه يحتفظ بأدوات تراثية مختلفة تحكي الكثير عن مراحل وأزمنة في تاريخ هذه الحرفة التقليدية الجميلة».

أعمال مختلفة يمارسها الأولاد، لكن الحدادة مهنتهم الأولى، وفق حديث ابنه "ضياء عزقول"، وقال: «لكوننا أبناء فلاحين، فإننا لا نبتعد كثيراً عن الزراعة، لكن التصاقنا بالوالد خلق لدي وإخوتي رغبة كبيرة بهذا العمل لنتعلم كافة التفاصيل التي أتقنها الوالد، وتعلمنا منه أن لا مستحيل، فأقسى أنواع الفولاذ يمكن إذابتها وقصها وتكوينها وفق الحاجة، قطع كثيرة تدهش من يراها نصنعها معه وفق خبرته، وقد نقل إلينا الكثير من المعلومات، ويعيد إلى ذاكرتنا عملاً قديماً كان ينجزه مع الجدّ.

أنا وأخي معه باستمرار، لأن هذا العمل عمل شاق ويحتاج إلى قوة عضلية كبيرة، لكن ما ينتجه هذا العمل له قيمة كبيرة بالنسبة للفلاح، وكل من يحتاج إلى تصنيع قطع نادرة لمعدات قديمة لا بديل عنها، فاليوم ينتج الوالد شفرات العزاقات، والمعاول، وأنواع مقصات الأغصان بقياسات مختلفة، والسواطير لقطع الأعشاب، والمناجل بقياساتها، وقطعاً مختلفة، ويكفي أن يطلبها الشخص لتجد الوالد يجسدها بيديه على الرغم من تقدمه بالسن، لكن رغبة العطاء والعمل تدفعه إلى العمل ساعات طويلة من دون كلل».

ما يجدر ذكره، أن "أبو مازن" "نسيب عزقول" من مواليد قرية "قنوات" في محافظة "السويداء" عام 1945، اغترب عامين فقط، ولم ينقطع عن مهنة حافظ عليها، ليبقى الحداد العربي الوحيد في المنطقة، ويزور ورشته زوار كثر تبعاً لشهرته وقدرته على إنتاج قطع مبتكرة.