بنى الفنان "طارق عبد الحي" من متعة ملامسة الطين علاقة عنوانها البحث في روح المادة وخواصها وشكلها وقابليتها للتكوين، ومسحة الحياة فيها منذ الرقم الفخارية وعهود بقي فيها الخزف قطعة متوارثة.

مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 8 كانون الأول 2017، التقت الفنان "طارق عبد الحي"، الذي قال: «عرف القدماء الطين كمادة نفخ بها الله لخلق أنبل المخلوقات، فإن روح المادة تفضي إلى الكثير من البحث وتسير بالباحث لفهم لا يقف عند حدود طاقة التكوين وفق الرؤية الفنية للفنان، بل هي حالة حياة تقدم للفنان فرصة على شكل مكافأة هي بالذات مولدة لطاقة جديدة لتكوين قطعة لا تتلاقى مع فكرة العبثية، بل هي عزف موزون الرتم يمتلكه الخزاف من علاقة حميمة مع هذه العجينة الرطبة».

عرف القدماء الطين كمادة نفخ بها الله لخلق أنبل المخلوقات، فإن روح المادة تفضي إلى الكثير من البحث وتسير بالباحث لفهم لا يقف عند حدود طاقة التكوين وفق الرؤية الفنية للفنان، بل هي حالة حياة تقدم للفنان فرصة على شكل مكافأة هي بالذات مولدة لطاقة جديدة لتكوين قطعة لا تتلاقى مع فكرة العبثية، بل هي عزف موزون الرتم يمتلكه الخزاف من علاقة حميمة مع هذه العجينة الرطبة

وتابع: «منذ ثلاثة آلاف سنة قدّر من صنع الرقم الفخارية أهمية هذه المادة، وإن عدنا إلى تلك المرحلة، فقد كان يصنعها الكاهن أو الكاتب في الحضارات القديمة، ومن هنا قد نتمكن من فهم أهمية المادة لدرجة أنه قدر كيف صنع الله الإنسان، وأول نص سومري يذكر الكاتب فيه أنه عندما وصل إلى خلق الإنسان أنبل كائناته نفخ بالطين لخلقه، وبنظري هذه المعلومة ليست إرثاً جمعه الكاتب، بل هي قدر علاقة الإنسان بالطين ومتعة التعامل معها كمادة، وقيمها أنها أنبل مادة يمكن أن يصنع منها رقمه، في عصر الأساطير ومحاولة الإجابة عن الأسئلة العظمى للإنسان والبحث عن الوجود، فبظهور الكتابة ظهرت الحاجة إلى تدوين إحساس الفنان، وكان الطين أيضاً مادته.

الفنان طارق عبد الحي في مشغله

هذه العلاقة يستشفها الباحث عن المادة، وبالنسبة لي قد يكون ما فيها من جمال جعل للرحلة جمالاً قد يفوق متعة الوصول للتخصص في الخزف في عام 2004 وإطلاق العمل بعد سنوات من البحث، كانت بدايته من شعور المتعة بملامسة هذه العجينة الطينية وقابليتها للتكوين ومرونتها، وإذا كانت أنواع الفنون والتشكيل المختلفة تستنزف طاقة الفنان، فالطين مساحة الراحة التي تجعل لرقص الأصابع ومداعبة الطين مكافأة للروح، ومولداً جديداً لطاقة الفنان على شكل مكافأة.

فالخزف لمن يهتم موجود بكل تفاصيل الحياة، وهناك ورشات ومعامل تعمل بجانب أو عدة جوانب لإنتاج قطع تبدأ من جرة الماء التي تأخذ حالة شواء واحدة، وانتهاء بقطع معقدة تستخدم آلات حرارية وكهربائية معقدة، وكل ما حاولت القيام به كان للمحافظة على التقنية التقليدية، بطريقة بقيت يدوية بكل التفاصيل بتقدير كامل لخاصة المادة التي خرجت من حدود الهواية لتلتصق بحالة إنسانية تثري علاقتي ضمن جدران هذا المشغل الذي قد يكون الوحيد في المنطقة الجنوبية، هنا لا ضجيج للآلة، فالعمل يدوي من الألف إلى الياء».

الفنانة عافية رزق

رفوف وقطع من مختلف الأشكال والتصاميم حملها رسائل بحثه التي انطلقت من مقالع الترب، وأضاف: «التكوين مرحلة نهائية، فمن يعشق الخزف سيكون مثلي معنياً بالبحث الذي يبدأ من مقالع الترب للحصول على التراب المناسب انتهاء بالتشكيل. فخلال عملي بمهمة على هامش العمل الفني بالتعاون مديرية الآثار لتقدير قيمة وأعمار اللقى الخزفية كانت لنا زيارة لخربة "الهيبارية" و"الأمباشي" التي تظهر حالة فريدة من اختلاط العظام بالحجر والتفسيرات الخاطئة لهذه التكوينات، وقد اختبرت بعض العمليات وفق معرفة سابقة تقر أن الصينيين أنتجوا ما يسمى خزف العظم وبقي سراً لعقود، بالاستفادة من عظام الحيوانات وتشكيل عجينة فريدة، وكانت التجربة عبارة عن صناعة حرفية خزفية متطورة عن عصرها.

هذه الأفكار حرضتني للبحث في ترب المنطقة وتطبيق هذه التجربة وغيرها لمدة وصلت إلى ثلاث أو أربع سنوات لانتقاء الترب المناسبة، وبالفعل وجدنا أن هناك أنواعاً مناسبة يمكن تعديلها وتحسينها، وكان الموضوع ممتعاً أعادنا إلى العقود الماضية، وآخر فترة خزفية عاشتها المنطقة، ومرحلة الأمهات والجدات اللواتي أتقن ما سمي بالخوابي، مستفيدات من آخر التصاميم البيزنطية وطريقة الصناعة التي أخذها سكان منطقتنا من "الإسلامي" بحكم التقليد وحس يشبه نظم الشعر وتكوين القصيدة، فهذا العمل حالة تكوين لا يشبهها إلا الشعر، وقد سعيت لتكون قصيدتي الخزفية، وهي عبارة عن مفردات حسية تنظمها الأعمال، وتكون الانطلاقة الفعلية بعد 2005 و2006 بمرحلة اكتملت فيها حالة البحث وظهر العمل بحالته المتكاملة واستقطب الزوار والمتذوقين».

من أعماله

احترام مزاج المادة ومزاياها الفيزيائية والكيميائية من أهم المقومات، وتابع: «يقدم البحث والتجربة معلومات قيّمة لا يمكن أن تنتقل نظرياً من دون اختبار العمل ليكون للخزف تصاميمه المتفردة، لم أجد لها تقارباً إلا مع حالة القطع الناقصة، ليكون للأواني تصاميم تحترم مزاج المادة وأكثر صفاتها التي تمنحها جمالية تتلاقى مع الدوران، وتبتعد عن حالة الزوايا القائمة والتكوينات المحددة، مع أننا اليوم نشكل تصاميم مختلفة تبعاً لعدد كبير من أنواع الخلطات والقطع المنتجة، ليكون للخلطات أكثر من نوع، منها ما هو سائل لقوالب محددة، ومنها ما هو على شكل عجينة مرنة، وكذلك طرائق التعامل مع الحرارة والأفران وتدرج درجات الحرارة؛ هذه التفاصيل من وجهة نظري هي التي تعطي للفنان مساحة الإبداع، فإن توصل إليها بالدراسة والعمل، يمكنه استثمارها بالشكل الفني الجميل، فلهذا الطين قصصه المتجددة، وبتّ أرى جمالية هذه القطع في عيون شرائح مختلفة، أهمها الأطفال وشباب أدربهم ليكتسبوا تقنية العمل اليدوي بهدف نشرها والتعريف بمكنونها الجمالي والإنساني».

الفنانة "عافية رزق" قالت عنه: «يصوّر بأعماله حالة التماهي مع هذه العجينة وبحثه للمحافظة عليها كحالة فنية صادقة، هي تجربة أطلقها بعد دراسة وبحث جعلها الخطوة الأولى لإعادة الخزف إلى الواجهة كعمل فني من روح المنطقة، وقد تشاركنا في عدة أعمال فنية وتدريبية كان محورها نقل هذه التقنية التقليدية من خلال ورشات فنية متخصصة لشريحة الأطفال، لنلمس عن قرب مفاعيل الطين بيد الطفل، وكيف لهذه المادة القابلة للتكوين الإفصاح عن تفاصيل طبعتها يد المكون لها، وكانت لنا تجارب مع أطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة، وشعرت بأهمية وجود فنان خبير ومشغل أسس على معرفة عميقة بهذه المادة، ليقدم حالة معرفية فنية نحتاج إليها بداية لتكون متممةً لمشاريع تعليمية مختلفة، وكي لا نتجاهل المنتج الذي يعكس حالة جمالية وصلت إلى مرحلة الندرة في مراحل سابقة، اليوم ينتجها الفنان "طارق" وفق ذوقه الفني الجميل لتعود كقطع تزينية أو قطع قابلة للاستخدام في المنزل، وتنقل هذه الصورة القديمة بحالة حضارية ورغبة يفسرها كثر بأنها عودة إلى الطبيعة ولقاء بصري وحسي قريب».

ما يجدر ذكره، أن الفنان "طارق عبد الحي" من مواليد "السويداء" عام 1967، خريج جامعة "دمشق" عام 1991، عمل في عدة مجالات فنية، وتخصص بالخزف.