في زمن ضاقت به سبل الحياة، كان العلم والمعرفة سبيلاً للكاتب الصحفي "إحسان عبيد" ليضع بصمته في العصر الذهبي للصحافة السورية، ومنها إلى الصحافة الإمارتية والكويتية بلغته الفريدة وتصميمه لمتابعة الرحلة.

ففي ذاكرته قصص يطول سردها عن مواقف جمعته بصحفيين من مختلف أصقاع الأرض، تفاعل مع تجاربهم راصداً وموثقاً لتجربة غنية. الكاتب الصحفي "إحسان عبيد" ضيف مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 14 أيلول 2018، يعود بنا إلى البدايات وملامح من تجربته الاغترابية التي لم تتوقف في عقده السبعين، بل اتخذت من عقودها وهجاً لتنبت بداية لإصدارات أدبية يعدّها بعض خلاصة تجربته الصحفية الطويلة، وقال: «أستطيع القول إن جيلنا تكالبت عليه جميع الظروف القاهرة لتحول دون متابعة التعليم بسبب الفقر، كنا في الصف السادس نحو 30 طالباً، لم يصل منا إلى المرحلة الثانوية إلا القلة القليلة، ولم ينهِ الجامعة إلا اثنان. وفي رحلة التعليم هذه كان ماء فرحنا معكراً وهواء بهجتنا مسمماً.

أستطيع القول إن جيلنا تكالبت عليه جميع الظروف القاهرة لتحول دون متابعة التعليم بسبب الفقر، كنا في الصف السادس نحو 30 طالباً، لم يصل منا إلى المرحلة الثانوية إلا القلة القليلة، ولم ينهِ الجامعة إلا اثنان. وفي رحلة التعليم هذه كان ماء فرحنا معكراً وهواء بهجتنا مسمماً. بعد الثانوية تقدمت إلى الكلية الحربية والجوية والصف الخاص، كنت أريد أن أرمي بنفسي في أي وظيفة أتسلم فيها راتباً بسرعة لمساعدة أهلي، لكنني فشلت وعلاماتي اختارت اختصاصي، واختصاصي ساقني لأعمل مصححاً لغوياً في صحيفة يومية بعقد مؤقت أثناء دراستي؛ راقني العمل واندمجت بالجو، فأفكاري المعطلة عن العمل صارت تطل برأسها، بادرت بكتابة موضوعات لاقت استحساناً لدى الإدارة، فنقلوني إلى قسم التحرير وتم تثبيتي في الوظيفة

بعد الثانوية تقدمت إلى الكلية الحربية والجوية والصف الخاص، كنت أريد أن أرمي بنفسي في أي وظيفة أتسلم فيها راتباً بسرعة لمساعدة أهلي، لكنني فشلت وعلاماتي اختارت اختصاصي، واختصاصي ساقني لأعمل مصححاً لغوياً في صحيفة يومية بعقد مؤقت أثناء دراستي؛ راقني العمل واندمجت بالجو، فأفكاري المعطلة عن العمل صارت تطل برأسها، بادرت بكتابة موضوعات لاقت استحساناً لدى الإدارة، فنقلوني إلى قسم التحرير وتم تثبيتي في الوظيفة».

مجموعته القصصية العنود

عن عمله في مرحلة ذهبية في عصر الصحافة السورية، يتحدث الإعلامي الخبير الذي خبر العمل في دوائر صحفية كبرى، وقال: «إن بداية عملي كانت في العصر الذهبي للصحافة السورية، كنا نعلم أن القارىء الأول لصحيفتنا هو "عبد الرحمن خليفاوي" رئيس الوزراء، وكانت هيئة تفتيش الدولة تلاحق التحقيقات التي نكتبها عن جوانب الفساد. كان أول مفصل في حياتي حين أوفدتني الصحيفة في مهمة مفتوحة إلى سد "الفرات" و"المشروع الرائد"، وهناك وقفت على أشياء يشيب لها شعر "الولدان"، وقال لي الزملاء بقسم التحقيقات: "لن يسمح لك رئيس التحرير بنشر هده المعلومات، بل سيرسل موضوعك إلى القيادة كتقرير وحسب".

شعرت بأن الموقف يسد قصبتي الهوائية، وسوف أموت اختناقاً إذا لم أنشر معلوماتي على الملأ، وجاء الحل؛ فقد علمنا أن رئيس التحرير سيسافر مع الرئيس إلى "الجزائر" بعد يومين لحضور مؤتمر القمة، وسوف ننشر الموضوع في غيابه لكي يسلم من الملامة والمساءلة؛ نشرت الموضوع، وأخذت إجازة 15 يوماً.

صورة من ذكرياته مع أسرة استديو 26 أول تجربة بث مباشر في سورية

وكما توقعت قامت الدنيا، الاتصالات لم تهدأ، وفي أول يوم دوام لي بعد الإجازة خاطبني الراحل "فوزي عيون السود" رئيس هيئة تفتيش الدولة، ذهبت إليه، ومن هناك ذهبنا معاً إلى مكتب "خليفاوي" الذي كان غاضباً جداً، فقلت له: معي جميع الوثائق، طال الحديث وهدأ غضبه بعد شرحي، وتم الاتفاق على إرسال لجنة وزارية برئاسة "محمد حيدر" وتسعة مفتشين، وعلى إثرها جرى تسريح 17 مديراً من مديري القطاعات، ووضع 32 شخصاً في السجن، ونقل 72 شخصاً من أماكنهم».

الصحفي في غير بلده نمر بلا أنياب، وخلاصة الحديث عن رحلته الاغترابية قال: «عندما يئست من تعديل راتبي على أساس الشهادة الجامعية، قررت السفر، لأن إخوتي كانوا على أبواب الجامعات، وبحاجة إلى تمويل، فسافرت إلى "ليبيا"، وعملت في إذاعة "صوت الوطن العربي" في لجنة دراسات في فكر الثورة العربية، ثم سافرت إلى "أبو ظبي" وعملت في مجلة عسكرية شهرية، وتعاقدت معي صحيفة "الوحدة" على كتابة زاوية يومية على صفحتها الأخيرة استمرت 836 يوماً، وبعد 10 سنوات عدت إلى بلدي لأستقر، فتزوجت وعملت مزرعة، ثم تبين لي أن الزراعة مقبرة رجال ومال، فسافرت إلى "الولايات المتحدة"، وبعد سنة لم أطق العيش فيها لأنني أحسستها سجناً كبيراً، فرجعت، ثم سافرت إلى "الكويت" عام 1993 وعملت في صحافتها وما زلت، عملت فيها مع محررين من كافة أصقاع الوطن العربي، ومن يعمل بجد وإخلاص سيثبت وجوده حتماً.

الدكتور غسان العودة

ففي بداية كل عمل يحمل الإنسان تجربته، وبعد مدة من المكابدة تحمله التجربة وتبدأ الفكرة في ذهن الكاتب مثل غيمة تتمدد في الأفق على شكل قطع صوفية متعامدة أو متناثرة، فيهيّئ لها رياحه كي يسوقها إلى مناخاته، فيدمجها ويستمطرها برشاقة ويصبها على الورق، ثم يدفع بها إلى عجلة المطبعة، وهناك تتحول إلى أدوات تفجير لمراتع الزيف في دوائر الدولة والقطاع العام. ولن ننسى أن تطوير الذات مهنياً ومعرفياً يمثلان الوقود النووي للإعلامي، فالجبل الذي لا تكسوه الثلوج، لن تتفجر سفوحه بالينابيع.

وبالنسبة للمقالات والتحقيقات المفصلية فهي كثيرة، ولو ذكرت تفاصيل وأصداء بعض المقالات والتحقيقات لاحتجت إلى صفحات كثيرة، فالصحفي ليس مطرباً كي يلقى الشهرة بسبب أغنية تضرب في السوق، إنه يحمل قنابل صوتية، وينزل إلى قطاعات الدولة، فيفجر هنا ليدلل على الهدر، ويفجر هناك ليدلل على الفساد، ويفجر هنالك ليدلل على التقصير، وهذا حصل منه الكثير في "سورية" حصراً، فالصحفي في غير بلده يكون نمراً بلا أنياب ولا مخالب، فيترك تلك التفجيرات الإعلامية لأبناء البلد».

لغة فريدة وذاكرة غنية تحدث عنها الدكتور "غسان العودة"، وقال: «صحفي سوري ذو نكهة خاصة يمتاز عن غيره في مهنة المتاعب بأنه يمتلك ناصية لغةٍ عربية لا أقول متينة، بل فريدة من نوعها بقوة التعبير وبساطة إيصال الفكرة، تجمع بين الجدية المفرطة أحياناً، والفكاهة الموجعة في أكثر الأحيان. من الناحية المحلية لا أظن أن كاتباً يعرف لغة ومفردات البيئة "السويدائية" كما يعرفها.

ينحدر من أسرة موهوبة بالأدب والكتابة، وليس سراً أن والدته إحدى شاعرات الجبل المرموقات، وينطبق الأمر على أشقائه المبدعين. عمل في الصحافة السورية لعقود. ينتمي إلى مرحلة أواسط الستينات، حيث يخزّن معلومات عن أحداث جسيمة مرت بها البلاد، وحقبة التغيرات السياسية في "سورية" والعالم العربي، عنده ذاكرة لا تصدأ، لا تكل ولا تمل، وهو قادر على ربط الأحداث والأشخاص بفنية مهنية عالية، إضافة إلى أنه يملك مخزوناً ثقافياً هائلاً في الأدب والسياسة والتاريخ. مؤسف ألا تكون قامة شامخة مثله في قلب الحدث، حيث إن عمله في المغترب حرمه من الانخراط الواسع في الحلبة الصحفية في "سورية" مع أنه عمل سنوات طويلة في الصحف الخليجية. "إحسان" ليس صحفياً سلبياً، ليس مرآة للأحداث في كتاباته، بل له إسهامات فكرية وآراء متجددة ومبادرات تبدو صادمة لمن تعوّد التلقي السلبي، أهم ما يميز مقالاته الاتزان والهدوء وخاصة عندما يحيط المواضيع بكل جوانبها، وهو لا يجزم بتاتاً، وأغلب الأحيان يترك السؤال مفتوحاً. باختصار متعة كبيرة أن يقرأ إنسان سطوراً للكاتب "إحسان"، وله شعبية كبيرة وآلاف مؤلفة من الأصدقاء والمعجبين بفكره وقلمه، فضلاً عن الأخلاق الرفيعة التي يتمتع بها».

ما يجدر ذكره، أن الصحفي "إحسان عبيد" ولد في قرية "ذيبين" عام 1947، خريج جامعة "دمشق"، قسم اللغة العربية، صدرت له هذا الصيف مجموعة قصصية "العنود".