استطاع الباحث في الآثار "خلدون الشمعة" اكتشاف أهمية السرج الأثرية القديمة ودراستها وتحديد عصرها التاريخي، حيث ربط بين تمازج الحضارات والحركة التجارية الكثيفة التي كانت تعبر وتستقر جنوب "سورية"، لينال درجة الماجستير على عمله البحثي.

حول أهمية اكتشاف السروج القديمة، مدونة وطن "eSyria " بتاريخ 30 كانون الأول 2018، التقت الباحث "خلدون الشمعة"، الذي أوضح قائلاً: «يعدّ الجنوب السوري من المناطق التي تزخر بالمواقع الأثرية التابعة لحضارات عدة مرت على هذه المنطقة، التي أخذت أهميتها من كونها نقطة التلاقي والاتصال والعبور عبر جميع العصور التاريخية التي بدأت بعد ظهور الكتابة. لقد قدمت لنا هذه المواقع الكثير من العناصر المعمارية واللقى الأثرية التي تزين متاحفنا، ومن هذه اللقى السرج الفخارية التي لا يكاد يخلو موقع أثري منها، فقد بدأت فكرة السرج في العصور الحجرية للمحافظة على النار المشتعلة، وذلك لاستخدامها في الطهو والإضاءة، وقد أظهرت بدراستي أن الإنسان استخدم في بادئ الأمر المشعل من الخشب الذي يحمل اللفائف النباتية والزيوت النباتية أو الحيوانية، وبعد ذلك تطورت طريقة الحفاظ على النار باستخدام السراج الفخاري الذي يتكون من خزان صغير للتعبئة؛ ذي فوهة تحفظ داخله المادة الزيتية أو الشحوم، وفوهة لفتيل الإشعال الذي يصنع عادة من الخيوط النباتية، إضافة إلى العروة أو المقبض الذي تختلف أشكاله حسب طرازه».

هناك زينات لميدالية السراج؛ وهي عبارة عن مشاهد من الحياة العامة، كتقديم رياضة المصارعة الرومانية، أو ظهور المقاتلين يتبارزون في المعركة، ومشاهد للحيوانات على مختلف أنواعها وبيئتها، والزخارف النباتية بمختلف أشكالها؛ تعكس البيئة المحيطة للصانع، فنجد أوراق العنب والعناقيد تزين السرج في محافظة "السويداء"، وظهور سعف النخيل التي عكست البادية السورية، والزخارف الهندسية من دوائر وحزوز وخطوط حلزونية وقواعد بارزة. ولا تخلو بعض السرج التي تعود إلى العصر الإمبراطوري الروماني من عبارات التمجيد والثناء. أما بالنسبة للعجائن، فنلاحظ أنواع مختلفة حسب مناطق الإنتاج؛ فمنها ما هو محلي، ومنها ما هو مستورد، ومنها ذو صناعة بسيطة للاستخدام العادي، وأخرى ذات صناعة مميزة لاستخدامات الاحتفالية والجنائزية

وتابع الحديث عن أهمية البحث: «تعددت المواد المصنوعة منها هذه السرج من الحجر أو المعدن أو الفخار الذي يعدّ مجال بحثنا، حيث استخدم للمحافظة على الإضاءة؛ وذلك لسهولة تشكيله ومقاومته للحرارة؛ وإمكانية نقله من مكان إلى آخر، حيث بدأت صناعته من عصور البرونز والحديد حتى الفترات الإسلامية، وتحتوي متاحفنا الكثير من السرج الفخارية التي كانت تدرس بسياق البعثات التنقيبية. ونظراً لكونها لا تقل أهمية عن باقي اللقى الأثرية المنقولة من مسكوكات وفخاريات، ودمى طينية وغيرها في تأريخ المواقع الأثرية؛ اخترنا دراستها بوجه خاص وانتقينا مجموعة من السرج الفخارية التي تقدم لنا طراز صناعة وعجائن ومواضيع ميثيولوجيا واستخدامات مختلفة. وانطلاقاً مما تقدم، فقد ضمت المجموعة عدة سرج من متاحف "دمشق" و"السويداء" و"بصرى" ضمن عنوان: "السرج القديمة في سورية الجنوبية من النصف الثاني للقرن الثاني قبل الميلاد حتى نهاية الفترة البيزنطية"، وذلك لما تتضمنه هذه الفترة من قطع تعكس لنا حياة الشعوب القديمة، وقد أشرف على هذا العمل الدكتور "فرانسوا فيلنوف" أستاذ الآثار الكلاسيكية في جامعة "السوربون" الذي سبق له أن عمل في مواقع عدة في جنوب "سورية"».

الدكتور نشأت كيوان

وتابع عن مراحل البحث بالقول: «بدأت اختيار السرج من متحف "دمشق" الوطني التي تعمدنا اختيارها من القطع المصادرة، من أجل وضعها في إطارها المكاني والزماني الصحيح، وهي عبارة عن 27 قطعة، ما عدا قطعة واحدة تعود إلى مدفن "يرحاي" في "تدمر". شملت القطع مجموعة من السروج المصنوعة بالقالب الفخاري المكون من جزأين علوي وسفلي، وتضمن الجزء العلوي الزخارف وفوهة التعبئة للخزان وفوهة الإِشعال، ويقدم الجزء السفلي قاعدة السرج، وتميزت القوالب بالزخارف الهندسية والنباتية والإنسانية ممثلة بالحياة اليومية والأساطير والحياة الدينية. تعود أغلب القطع المختارة إلى العصور الكلاسيكية.

الجزء الثاني كان مجموعة مؤلفة من 11 قطعة من متحف "بصرى"، فهناك طراز السروج من العصر الهلنستي والروماني والبيزنطي والإسلامي معتمدين على تقسيمها حسب شكلها وتاريخها».

من المكتشفات الأثرية

وتابع: «الجزء الثالث أفردته لمتحف "السويداء" معتمداً على اختيار أكثر من مصدر لمواقع أثرية للقطع من مدافن المدينة القديمة التي تعود إلى الفترات الكلاسيكة، و"قصر نجمة"، و"مقبرة رافع"، إضافة إلى اختيار مجموعة من السروج تعود إلى موقع "مساكب" القريب من بلدة "قنوات"، وموقع "تل أحمر" بالقرب "مصاد"، وقسمتها على شكل مجموعات حسب أسلوب صناعتها. أما الجزء الرابع، ونتيجة اكتشاف مقبرة "صلخد" عام 2004 وظهور العديد من السرج التي تعود إلى عصور مختلفة، وأهميتها في تحديد تاريخ تقريبي للمقبرة، ولذلك قسمتها حسب الطراز، فمنها السرج المصنوعة بالقالب بفوهة المنقار، والمثلثية، ومنها ما يأخذ الشكل الإجاصي بفوهة إشعال دائرية ومقبض. والذي ميز المكتشفات تلك السرج ذات المقبض الخماسي حيث ظهرت بعدد كبير في هذا المدفن البكر.

تبلغ أهمية الدراسة للسرج؛ ليس فقط للإضاءة، لكن كمقدمات للمعابد التي لها استخدام ديني، ويثبت ذلك من خلال ظهور الميثولوجية وصور الآلهة مثل: "زيوس، وكيوبيد، وربة النصر المجنحة، وميدوزا، وهيلوس إله الشمس، وأفروديت ربة الجمال"، حيث توضع في المدافن للاعتقاد بإنارة القبر التي تمثّل العودة إلى الحياة».

ويضيف بالقول: «هناك زينات لميدالية السراج؛ وهي عبارة عن مشاهد من الحياة العامة، كتقديم رياضة المصارعة الرومانية، أو ظهور المقاتلين يتبارزون في المعركة، ومشاهد للحيوانات على مختلف أنواعها وبيئتها، والزخارف النباتية بمختلف أشكالها؛ تعكس البيئة المحيطة للصانع، فنجد أوراق العنب والعناقيد تزين السرج في محافظة "السويداء"، وظهور سعف النخيل التي عكست البادية السورية، والزخارف الهندسية من دوائر وحزوز وخطوط حلزونية وقواعد بارزة. ولا تخلو بعض السرج التي تعود إلى العصر الإمبراطوري الروماني من عبارات التمجيد والثناء. أما بالنسبة للعجائن، فنلاحظ أنواع مختلفة حسب مناطق الإنتاج؛ فمنها ما هو محلي، ومنها ما هو مستورد، ومنها ذو صناعة بسيطة للاستخدام العادي، وأخرى ذات صناعة مميزة لاستخدامات الاحتفالية والجنائزية».

وبيّن الدكتور "نشأت كيوان" مدير دائرة "السويداء" للآثار والمتاحف؛ أهمية البحث بالقول: «تعدّ دراسة الباحث "خلدون الشمعة" مرجعية مهمة بمقارنة موسعة للقطع التي وصل عددها إلى ما يقارب 160 سراجاً، حيث اعتمد دراسة الشكل والعجينة الفخارية وطريقة الصناعة والزخارف، وتوصل إلى وجود ثمانية عشر طرزاً تنوعت في أشكالها وزخارفها ودواعي استخدامها، منها ما هو محلي الصنع، ومنها المستورد من المناطق المجاورة لبلاد الشام، ومنها ما هو مستورد من مناطق بعيدة مثل آسيا الوسطى و"قبرص"، و"روما". وبذلك أكد لنا أن منطقة الجنوب السوري كانت بوجه دائم على مرّ العصور مركز التقاء وثقل لحضارات كبيرة؛ فكانت نقطة التلاقي بين الفراعنة والحثيين، وبين الأمورين والفينيقيين، وكانت مركزاً للآراميين، وفيها السلوقيون والبطالمة متمثلين بالحضارة الهلنستية. حيث درس الباحث الفترة الكلاسيكية الرومانية - البيزنطية، وصولاً إلى الفترة الإسلامية، لهذا فقد أثبت بدراسته على مدى ثقافة وتمازج الحضارات والحركة التجارية الكثيفة التي كانت تعبر وتستقر جنوب "سورية"، وانعكس غناها على ما نرى من آثار منقولة وغير منقولة باقية إلى عصرنا الحالي».

الجدير بالذكر، أن الباحث "خلدون الشمعة" من مواليد مدينة "صلخد" عام 1979، وقد نال بحثه درجة الماجستير بامتياز.