تعدُّ المربية الراحلة "رضية أحمد بركات" أقدم مدرسة في بلدة "الكفر"، وأوّل فتاة حاصلة على شهادة "دار المعلمات" فيها، وساهمت بفضل شخصيتها الجريئة في محاربة الأمية، تاركةً خلفها مسيرةً حافلةً من الجد والعمل.

مدوّنةُ وطن "eSyria" التقت المدرسة المتقاعدة "نزيهة حذيفة"، وابنة شقيقة الراحلة بتاريخ 18 تموز 2020 لتتحدث بالقول: «ولدت "رضية بركات" في بلدة "الكفر" عام 1937، وتخرجت بتاريخ 8 كانون الثاني 1962 من "دار المعلمات" في محافظة "درعا"، وكانت مدة الدراسة في الدار آنذاك ثلاث سنوات بعد الصف التاسع مباشرة.

في خمسينيات القرن الماضي كان ينظر لتعليم الفتاة باستغراب، ولكن الراحلة شقت طريقها بالصبر والتحدي، حيث كرست حياتها لتعليم أبناء البلدة وتربية أبناء وبنات أخواتها عازفة عن الزواج، كانت تنظر لطلابها على أنهم أبناؤها وتحرص عليهم كما أهلهم، وأينما حضرت تلفت الأنظار إليها، وكانت قدوةً بحق

بدأت مسيرة التعليم في القرية في مدرسة الشهيد "منير بدران"، وما لبثت أن تسلمت إدارة المدرسة إضافة إلى التدريس حتى اكتمل نصاب المعلمات فتفرغت للإدارة، وبقيت في ذات المدرسة 36 عاماً حتى مرحلة التقاعد عام 1995».

"رضية أحمد بركات"

وتابعت: «تأثرت جداً بشخصيتها منذ صغري، كنا مقربين منها، ولها فضل كبير في تربيتنا، كانت شخصية عصامية، حيث توفي والدها بعمر صغير، وليس لديها إخوة ذكور، كافحت وتعبت في حياتها مع والدتها وأخواتها، وما حققته كان بجهد وتعب كبيرين، صاحبة شخصية جريئة وشجاعة ولها حضور بارز، وبالإضافة إلى تدريس الطلاب كانت تشرف على دورات محو الأمية، وكانت حريصة على خلو بلدة "الكفر" من الأمية، بالإضافة إلى نشاطها البارز في الاتحاد النسائي وفي مؤتمراته على وجه التحديد».

تنحدر "بركات" من عائلة معروفة في "الكفر"، فخالها "محمد سابق" كان مؤرخاً ومعروفاً بذكائه وفطنته، وكان أهالي القرية يحتكمون لديه كما لو أنه قاض، وقد تحدث ابنه "منصور سابق" عن "بركات" بالقول: «في خمسينيات القرن الماضي كان ينظر لتعليم الفتاة باستغراب، ولكن الراحلة شقت طريقها بالصبر والتحدي، حيث كرست حياتها لتعليم أبناء البلدة وتربية أبناء وبنات أخواتها عازفة عن الزواج، كانت تنظر لطلابها على أنهم أبناؤها وتحرص عليهم كما أهلهم، وأينما حضرت تلفت الأنظار إليها، وكانت قدوةً بحق».

في إحدى المناسبات

"سلوى أبو سيف" معلمة متقاعدة عاشرت "بركات" وعرفتها عن قرب، قالت: «هي شخصية استثنائية ومتميزة، بدليل البصمة الواضحة التي تركتها في ذاكرة أهالي بلدتها وفي أذهانهم، وحتى وفاتها والناس تتحدث عن مآثرها، تميّزت بصفات جعلتها محبوبة من الجميع؛ من الإطلالة البهية والبسمة التي لا تفارق محيّاها، إلى صوتها القوي الواضح الرنان، وإلى ذاكرة ماسية لا تنسى أي شيء، وحديث شيق يجذبك باستمرار، تعاملت مع زميلاتها وتلاميذها وأهالي الطلاب بأرقى الأساليب والوسائل التربوية الحديثة، وبعيدة كل البعد عن استعمال العنف والقسوة، كانت المدرسة بيتها الثاني، ولا تغيب إلا ما ندر، وفي حالات المرض الشديد، أدت رسالتها التعليمية والإنسانية على أكمل وجه، وستظل ذكراها لسنوات وسنوات في أذهان الجميع».

طبيب الأسنان المعروف "شريف حذيفة"، تحدث عن أبرز مواقف "بركات" بالقول: «زرت "سلطان باشا الأطرش" قائد الثورة السورية الكبرى في بداية عام 1981، وقد حدثني بمجمل حديثه عن قصة حصلت في بلدة "الكفر" عام 1954، ففي تلك الفترة تعرضت البلاد لأزمات عديدة وانقلابات، ومما قاله "الأطرش": (تعرضنا في المنطقة لأزمات كثيرة جعلتني أفكر بمغادرة الجبل، وبالفعل عزمت مع مجموعة من الخيالة على الرحيل، وصلنا قرية "الكفر" مع مغيب الشمس، وكان الطقس شديد البرودة ومثلجاً، ولدى وصولنا شاهدنا أهالي القرية مجتمعين بالساحة العامة للبلدة، منهم من يرغب باستقبالنا ويتمنى ذلك، ومنهم من يتوجس خيفة تبعات هذا الأمر، شاهدت صبيةً يافعةً تندفع بين الجموع بثقة وجرأة، أمسكت فرسي من لجامه وانتخت بين جموع الرجال بمنديلها الأبيض، وقالت لي: أنت ضيف "الكفر" هذه الليلة).

بعد الانتهاء من حديثه أمسكت يده متسائلاً بإصرار: (وهل تعرف تلك الصبية أو تذكر اسمها؟ أجابني: بالطبع "رضية أحمد بركات")، ولشدة فرحي بما سمعت زرتها مباشرة بعد عودتي من بيته، كانت (أخت الرجال) بحق، واثقة من نفسها وسيدة فريدة من نوعها، واستمرت علاقة الصداقة والأخوة بيننا مع تبادل الزيارات العائلية حتى وفاتها».

يذكر أنّ "رضية أحمد بركات" توفيت يوم الثلاثاء 14 تموز 2020، عن عمر يناهز 83 عاماً.