تعدُّ أحداث حياة الملكة السوريّة "ماوية" من الأحداث المفصلية والجدلية في تاريخ "سورية" الكبرى، وقد تعددت الروايات والقصص المنسوبة عنها، وتعود أسباب تغييبها تاريخياً لقلة المصادر واختلافها.

مدوّنةُ وطن "eSyria" تواصلت مع الدكتور والباحث في علوم التاريخ "هيثم طيون" بتاريخ 17 نيسان 2020، ليحدثنا عنها، حيث قال: «تعدُّ "ماوية" أقوى امرأة في أواخر العصر العربي البرثي، وكان أسلافها من العرب البرثن الذين تحالفوا مع قبائل التنوخيين مُعتنقي التناخ اليهودي، وهو مُصطلح فضفاض جمع القبائل البدوية التي هاجرت شمالاً من شرق "شبه الجزيرة العربية" قبل حوالي قرن من ولادتها، بسبب تزايد النفوذ الفارسي الساساني في شرق "شبه الجزيرة العربية"، وكان زوجها هو الملك "الهواري" أو "الحواري"، آخر ملوك البرثن لاتحاد كونفدرالية العرب البرثن مع البدو التنوخيين في جنوب "سورية" في النصف الأخير من القرن الأول الميلادي، وعندما توفي الملك "الهواري" دون أن يترك وريثاً، تسلمت العرش لتقود الكونفدرالية في صراع ضد الرومان».

كانت الملكة "ماوية" خليفة التنوخيين من حيث القوة والبأس والشجاعة، وهي مقاتلة وفارسة من الطراز الأول وقائدة ومخططة عسكرية وذات شخصية قوية وفائقة الجمال، وقد عمدت لاكتساب احترام شعبها ومحبته، حيث قادت جيوشها بنفسها وقتلت الكثير من أعدائها الروم، وكان لفرضها على الدولة الرومانية اعتبار شعبها مواطنين من الدرجة الأولى أي متساوين مع الرومان بكافة الحقوق دوراً واضحاً في اكتسابها جماهيرية قلّ نظيرها

أما حول أسباب الصراع فقال: «يُعتقد أن أسباب الصراع كانت دينية، فبعد وفاة زوجها قرر الإمبراطور الروماني "فالنس" وهو من أتباع المذهب الأريوسي تجاهل طلبات العرب لتنصيب أسقف أرثوذوكسي، وأصر على تعيين أسقف أريوسي، فانسحبت "ماوية" من "حلب" إلى الصحراء مع جماعتها، وشكلت تحالفات مع أعراب بدو الصحراء في "الجزيرة السورية" و"البادية السورية العراقية" استعداداً لمحاربة النفوذ الروماني، وفي ربيع عام 378م، أطلقت "ماوية" حرباً واسعة ضد الرومان، واجتاحت قواتها شمال "شبه الجزيرة العربية" و"فلسطين" ووصلت إلى مشارف "مصر"، وتمكنت من هزيمة القوات الرومانية في عدة مواقع، حيث استخدمت أساليب حرب العصابات، ونجحت بالقيام بغارات عديدة قابلتها عدة محاولات رومانية فاشلة، لكن المعارك أثبتت أن قواتها كانت متفوقة على القوات الرومانية وحصلت على تأييد جميع السكان المحليين في المنطقة الذين تعاطفوا مع قضيتها.

خريطة توضح المناطق التي سيطرت عليها الملكة ماوية

تم إرسال قوة ثانية بقيادة القائد العسكري الروماني لقوات شرق الإمبراطورية والتقت بقوات "ماوية" في معركة مفتوحة، وقد قادت قواتها شخصياً إلى تلك المعركة، و أثبتت أنها ليست فقط زعيمة سياسية متمكنة بل قائدة حربية متمرسة، فقد استخدمت قواتها تقنيات ساحة المعركة الرومانية إضافةً لأساليب القتال التقليدية الخاصة بها، و كان لها سلاح فرسان متنقل يستخدم رماحاً طويلة ذات تأثير مميت، هزم الرومان، وهكذا لم يكن أمام "فالنس" خيار سوى محاولة عقد معاهدة سلام معها، وهو ما فعلته بشرط أن يُعيّن الرومان راهباً إسمه "موسى" وهو الراهب الزاهد الذي أعجبت بأفكاره فتخلت عن الوثنية واعتنقت المسيحية ليكون أسقفاً راعياً لشعبها، وقد التزمت "ماوية" بشكل صارم بالهدنة، وقامت بتزويج ابنتها الأميرة "خاسيدات" من "فيكتور" القائد العام للجيش الروماني، وهكذا بدأت الكنيسة العربية الناشئة بالظهور في المشرق وجذبت إليها العديد من التنوخيين في بلاد "ما بين النهرين"، وتمكنت "ماوية" من استمرار حكم تحالف قبائل العرب والحفاظ على الامتيازات التي تمتعوا بها قبل عهد حكم الإمبراطور "جوليان"».

وأضاف: «كجزء من اتفاق الهدنة المعقودة بينهما، أرسلت "ماوية" قواتها إلى "تراقيا" لمساعدة الرومان على محاربة القوط، لكن المواجهات التي حدثت أظهرت قواتها على أنها أقل فعالية عند القتال خارج أراضيها، وتمكن القوط من دفع الرومان للعودة إلى "القسطنطينية"، حتى أنهم تمكنوا من قتل الإمبراطور "فالنس" نفسه خلال مُجريات أحداث تلك المعركة، فعادت قواتها إلى موطنها بعد أن أصيبت بخسائر جسيمة ونقص شديد بتعداد جنودها، وما زاد الأمور سوءاً أن الإمبراطور الجديد "ثيؤدوسيوس" الأول، كان يُفضّل القوط وراح يمنحهم العديد من المناصب على حساب العرب البرثيين الذين أحسوا بالخيانة، فشنوا ثورة أخرى لكن سُرعان ما تمّ للرومان إخماد هذه الثورة و انهار تحالف قبائل التنوخيين والعرب البرثيين مع الرومان إلى الأبد، بينما راح تحالف الرومان والقوط يغزي قبيلة عربية أخرى للعمل لصالحهم هي قبيلة "صالح"، ومن غير المعروف ما إذا كانت "ماوية" قد قادت هذه الثورة الثانية أم لا، حيث لا تذكر المصادر قيادتها لذلك التمرد، لكن من المعروف أنها ماتت في "أنسارتا، خناصر" الواقعة شرقي "حلب" في قلب منطقة عشائر التنوخيين القبلية، حيث عثر على نقش سجل موتها ودفنها هناك».

العملات التي تظهر عليها الملائكة

وأضاف: «تُعتبر قصة الملكة "ماوية" من الأحداث المخفية في التاريخ حيث لم نجد ذكراً لها إلا في التاريخ الروماني وباقتضاب، ولم نجد أي دليل أثري على وجودها سوى نقش سجل موتها، فليس لها عملات و لا آثار، مجرد قصص دون إثباتات، لكننا نستطيع الجزم أن قصة الملكة "ماوية" المذكورة هي قصة الملكة "موسى" نفسها، وقد تم ترحيلها من القرن الأول للقرن الرابع الميلادي كخطأ تاريخي أو تزوير تم على يد مؤرخي الرومان أنفسهم، وعلى الأرجح السبب ديني، وبحسب خبير العملات الباحث المهندس "أحمد رسمي" فإن اسم "موسى" ممكن أن ينطق باليونانية "مافيا" كاسم الملك "موسى" من ملوك الهنود السكثيون، كما نرى في عملاتهم "مافيس باليونانية" تقرأ "مواسا بالخروشتي "Moasa"، وأقدم ذكر للملكة "ماوية" كان باللاتينية ينطق "مافيا"، فالأحداث نفسها متشابهة من حيث عدد سنين الحكم أربع سنوات، و"موسى" زوجت ابنتها من ملك "إرمينيا"، كما نجد أن "ماوية" زوجت ابنتها من القائد الروماني "فيكتور"، وفي فترة حكم الملكة "موسى" كان هناك صراع روماني - بارثي على أشده كما حدث مع "ماوية"، وحتى في قصة "ماوية" نجد أن الصراع كان دينياً مذهبياً لجعل الأسقف "موسى" أسقفاً للعرب، و حتى اسم الأسقف مأخوذ من اسمها، و في عملات الملكة "موسى" تظهر لأول مرة الملائكة المجنحة وهي تحيط برأس ابنها، وهذه كانت إضافة غير مُتداولة على عملات البرثن ما يُشير إلى أن هناك حدث دينياً مهماً جرى في هذه الحقبة من تاريخ البرثن وهو التحول إلى المسيحية.

لكن السؤال لماذا تم نقل قصتها للقرن الرابع الميلادي؟ في الحقيقة الإجابة الوحيدة التي نراها منطقية هنا هي محاولة الرومان لإخفاء أصول الديانة المسيحية، بمعنى أن النصرانية كانت دين موجود قبل مسيحية "روما"، عندما نعود لنقش "النمارة" نجد كلمة "نزرو" التي في اعتقادنا هي النصرانية، وفي نقش "كارتير" وهو نقش مهم جداً في فترة بداية الدولة الساسانية نجد أن كلمة "نزارا" أي النّصارى هم الرّهبان الزُّهاد و"كريستيانو" ذكروا كدينين منفصلين، وأشيع أن البرثن كانوا على ديانة ميثرا والمثرائية هي تقريباً نفس المسيحية في كل شيء كالميلاد والصلب والبعث، ويطلق على "الميثرائية" اسم الدين الغامض».

الدكتور هيثم طيون

كذلك تحدث الإعلامي "حاتم شحادة" المهتم بالجانب التاريخي عن الملكة "ماوية" قائلاً: « كانت الملكة "ماوية" خليفة التنوخيين من حيث القوة والبأس والشجاعة، وهي مقاتلة وفارسة من الطراز الأول وقائدة ومخططة عسكرية وذات شخصية قوية وفائقة الجمال، وقد عمدت لاكتساب احترام شعبها ومحبته، حيث قادت جيوشها بنفسها وقتلت الكثير من أعدائها الروم، وكان لفرضها على الدولة الرومانية اعتبار شعبها مواطنين من الدرجة الأولى أي متساوين مع الرومان بكافة الحقوق دوراً واضحاً في اكتسابها جماهيرية قلّ نظيرها».