حارس "صندوق الكار" الذي غيّبه الزمن لمدة ثلاثين عاماً منذ العام /1978م/ وجد نفسه في قلب "دمشق" الحديثة - ساحة "عرنوس" ليروي لأبنائها اليوم حكاية "البروكار".. حكاية حرفة لم تنتسب يوماً إلا لمدينة واحدة "دمشق/ الشام" التي أهدت ملكة بريطانيا "إليزابيت الثانية" ثوب زفافها لتتباهى به أمام ملوك العالم في ليلةٍ من ألف ليلةٍ وليلة. تم تقديم الحكاية في إطارٍ مسرحي تفاعلي وعلى مدى ثلاثة أيّام بين (19و20/10/2008م).

وإليكم الحكاية:

قال حارس الصندوق للجمهور المحتشد بلهفة أمام حكواتي /2008م/: «إذا بدّكن تعرفوا قصة ثوب الملكة، لازم تعرفوا قصة ناس.. بني آدمين متلي ومتلكن، عاشوا وماتوا هون.. حوالينا: تجّار وشغيلة ومعلمين، بيّاعين ولبيّسة، ولتعرفوا قصصهن لازم تعرفوا قصّة هالدودة- في إشارةٍ إلى دودة قز ضخمة قبالة الصندوق-» ويتابع حارس الصندوق "كفاح الخوص": «قصة هالدودة هي قصة الحرير بالشام، وكار البروكار اللي هو كاري وأحلى كار ببر الشام..»

قصة هالدودة هي قصة الحرير بالشام، وكار البروكار اللي هو كاري وأحلى كار ببر الشام..

ثم استعرض في جو قائمٍ على الإبهار البصري، قصة وصول الحرير إلى "دمشق" قبل مئات السنين، ومهارة الدمشقيين في صناعته، والويلات التي جرها ازدهار صناعة الحرير على هذه المدينة، وما أكثر من طمعوا بها فالمغول عندما اجتاحوا "دمشق" بقيادة "تيمورلنك" استهدفوا صنّاع الحرير ثم أخذوا معهم هذه الصناعة إلى بلادهم، أما العثمانيون فاختاروا أمهر صنّاع "البروكار" ليأخذوهم معهم إلى "اسطنبول".. وتستمر الحكاية وصولاً إلى العام/1860م/ عندما استهدفت الفتنة الطائفية التي عصفت ببلاد الشام في ذلك الوقت حي "القيمرية" الذي كان يطلق عليه اسم "الهند الصغرى" لكثرة أنوال الحرير فيه، مما تسبب في مقتل العديد من صنّاع الحرير لينخفض عددهم من /30000/ إلى /8000/ إلا أن السيد "أنطوان مزنّر" من حي "باب شرقي" أعاد لهذه المهنة ألقها في عندما فتح أول معملٍ لصناعة البروكار في العام/1890م/ وذلك بجهود عدد من أمهر حرفيي البروكار بحارة "الأكراد" ومنهم "أبو جوان": «أمهر نقّاش بروكار بالشام..» إلا أن قصة البروكار والويلات التي جرّتها على "الشام" لم تقف عند هذا الحد، حيث كشف حارس الصندوق عن وثيقة تعود إلى عام /1915م/ موجهة من غرفة تجارة "ليون ومرسليا" إلى وزير خارجية فرنسا آنذاك تطالبه بالوصاية على سورية لازدهار صناعة الحرير فيها الأمر الذي يمكن أن يعود بالفائدة على الصناعة والأسواق الفرنسية، لتتعرض هذه الصناعة إلى تراجعٍ كبير في عهد الانتداب الفرنسي على سورية بين عشرينيات وأربعينيات القرن الماضي، وكما بدأ حارس الصندوق حكاية حرفة البروكارالدمشقي من قصّة ثوب زفاف ملكة بريطانيا "إليزابيت الثانية" ختم بذات القصة: «وصلت هدية الشام لبلاط الملكة.. فستان بياخد العقل أرضيته بيضا متل التلج، وعليه عاشق ومعشوق جناحاتهن من فضة وذهب عيار/12/.. كل اللي شافوا انسحروا فيه.. كيف لأ وهو مشغول من عرق البني آدمين. كل معلمين البروكار بيقولوا إنو هنن اللي اشتغلوا التوب.. بس مومهم.. المهم إنو التوب طلع من الشام..»

تلك كانت حكاية ثوب الملكة.. حكاية البروكار.. حكاية "دمشق".. فكرة ولدت من رحم السينوغرافيا، فالمشتغلون على هذا العرض هم ثلاثة من السينوغراف "بيسان الشريف، زكريا الطيان، ونزار بلال" أرادوا تقديم عرضٍ بصري قائم على الإبهار في مكان مفتوح بالاعتماد على دمى ضخمة، فكانت فكرة دودة القز، والفراشة، والمغزل وصندوق الكار وخيطان الحرير التي أحاطت بساحة "عرنوس" من كل الجهات، وحوّلت الساحة إلى فضاء مسرحي ضخم بدءاً من آخر سوق "الصالحية" وصولاً إلى تقاطع شارع "الباكستان"، أما القصّة فاستوحاها "محمد العطار الحسيني" من هذه الفكرة ليأتي البناء الدرامي للنص ملائماً للرؤية السنيوغرافية وقائماً على عدة حكايات يربطها خيط واحد هو حكاية ثوب الملكة التي يرويها الممثل "كفاح الخوص" وسط دهشة الممثلين "ربى الحلبي/المذيعة، ويحيى الهاشم/ الصحفي" الذين تعاملا مع دودة القز وصندوق الكار وحارسه على أنهما حدث إعلامي استثنائي يعملون على تغطيته بمنطق الـ"Live coverage" ومن خلال هذه التغطية تتوضح معالم الحكاية، بينما أخذ الممثل "موسى فرح" دور قائد فريق التحريك لهذه الدمى العملاقة على وقع الموسيقا الحيّة التي عزفها خماسي الآلات النحاسية: "راني الياس، يولا خوري، راجي خزندار، مجد الشحيد، منار محرطم" وهي من اختيار "يزن الشريف".

موقع "eSyria" حضر عرض "صندوق الكار" ورصد تفاصيله بدءاً من اللحظة التي اكتشف فيها الجمهور وجود دودة القز الضخمة في ساحة "عرنوس" وصولاً إلى لحظة تحولها إلى فراشةٍ عملاقة طارت فوق سماء الساحة ليستقر بها المطاف على رأس شجرة نخيل، وما بين الحدثين كانت حكاية البروكار التي حدثنا عنها وعن الفكرة عموماً الكاتب: "محمد العطاّر الحسيني": «فكرة العرض في الشارع انطلاقاً من مفاهيم سينوغرافية هي فكرة المخرجة: "بيسان الشريف"، وكان علينا أن نبحث عن نص يربط هذا الـ"Show" بفضاء المدينة –قلب المدينة الحديثة- فقررنا أن نحكي حكاية حرفة البروكار/ الحرير الدمشقي الذي هو على وشك الاندثار بشكله اليدوي الجميل، ومن خلال هذا الرمز تطرقنا لتفاصيل تاريخية عن مدينة "دمشق".. العرض ليس له علاقة بالحنين إلى الماضي بقدر ما يعبر عن مكونات اجتماعية واقتصادية شكلت جزءاً مهماً من تاريخ المدينة وحياتها بالاستفادة من تقنيات المسرح التفاعلي، ولكن ليس إلى الحد الأقصى فالتداخل بين حيز اللعب والتلقي غير مفتوح دائماً، أي أن تدخل المتلقي في العرض قد يكون بإضافة جملة أو أكثر، وذلك عبر أسئلة يمكن أن يطرحها حارس الصندوق على الجمهور وهذا الأمر يتيح له الارتجال نسبياً..» وعن المرجعية التاريخية للنص قال "محمد": «نحن مزجنا ما بين السرد الشفهي المتخيل والوثيقة التاريخية كالوثيقة الموجهة من غرفة تجارة "ليون ومرسيليا" إلى وزير الخارجية الفرنسي، حيث حرصنا أن تتم قراءة هذه الوثيقة حرفياً، وفي أجزاء أخرى من الحكاية أخذنا مفاصل حقيقية في تاريخ المدينة المرتبط بتطور حرفة البروكار على العموم وبنينا عليها تفاصيل فقصة ثوب الملكة حقيقية، وكذلك قصة "أنطوان مزنّر" في حين كانت شخصية "أبو جوان" رمزية تشير إلى تفوق الحرفيين الدمشقيين الأكراد في هذه المهنة ومحافظتهم عليها إلى الآن»

وعن الرؤية الإخراجية للعرض قالت "بيسان الشريف": «لم أتعامل مع "صندوق الكار" انطلاقاً من المفهوم التقليدي للإخراج المسرحي، فأنا لست مخرجة بالأساس بل مهندسة عمارة ومصممة سينوغرافيا، لذلك ذهبت باتجاه الاعتماد على التقنيات وتصميم الحركة أكثر من الاعتماد على الممثل، وأعتقد أن خصوصية الفكرة تطلبت ذلك، حيث أردنا منذ البداية تقديم عرض شارع يعتمد على دمى كبيرة وآلات تحريك ضخمة، هذا العرض شامل لتقنيات التمثيل والأداء الحركي عبر حكاية تربط كل هذا العمل..» ولكن كيف وجدت رد فعل الجمهور على العرض؟ أجابت "بيسان": «يكفي أن الناس وقفوا وشاهدوا العرض إلى النهاية، ليس ذلك فقط بل هناك من لامستهم هذه القصة بطريقةٍ أو بأخرى، فأحد الحضور على سبيل المثال كان من بين مربي دودة القز بـ"دمشق" والمشتغلين بالحرير وقد أسعده هذا العرض كثيراً لأنه عبّر عن حنينه لهذه الحرفة وأهميتها في حياته وحياة المدينة ككل..»

ونختم بلقاء قصير مع النحاّت "نزار بلال" أحد فرسان السينوغرافيا الثلاثة الذين أطلقوا فكرة "صندوق الكار"، "نزار" تحدّث لموقع "eSyria" عن الدمى الضخمة التي تدور حولها فكرة العرض: «رغبتنا في تقديم عرض مسرح تفاعلي في الشارع، سمحت لنا بالتعامل مع كتل ضخمة مثل الصندوق والفراشة والدودة، أنا اشتغلت على الدودة والفراشة في حين عَمِل السينوغراف "زكريا الطيّان" على الصندوق وضبط الحركة، بينما تفرغت "بيسان" للإخراج.. الفراشة طولها /3.5م/ والدودة سبعة أمتار وكليهما من المعدن وهو مادة صعبة بالنسبة للنحات، لكنني طوعتها في خدمة الفكرة، كما لجأت إلى التعتيق أيضاً لإعطاء انطباع عن عمر الفراشة الذي يتجاوز الثلاثين عاماً كما تقول الحكاية..» وختم "نزار" بالقول: «تجربة العمل على "صندوق الكار" كانت ممتعة بالنسبة لنا رغم صعوبتها، هذا النوع من العروض الكرنفالية الضخمة سائد في أوروبا، ونحن نقدّمه في سورية لأول مرّة ولكن على طريقتنا...»