ها أنذا..أعود من تونس العزيزة بعد نقاش طويل، وحوار مثمر حول تجربة الشاعر الكبير "نزار قباني"، وقد فرحت فرحاً لا حدود له لأن المشهد الثقافي التونسي منشغل بشاعر سورية الفذ الذي ملأ المشهد الشعري العربي قرابة ستة عقود كاملات، كان فيها شاعراً جوّاباً لكل الآفاق والحقول، تُماشيه موهبة شعرية نادرة، وثقافة موسوعية لا نظير لها، وعين رائية شديدة الحساسية والنفاذ..

وسبب فرحي لا يعود إلى أهمية تجربة نزار قباني الضافية المترامية الأطراف وحسب، وإنما لأن الذهنية التونسية ليست منشغلة بالإبداع وحسب، وإنما منشغلة بالمدونتين الوطنية والقومية في آن، فنزار قباني شاعر وطني وقومي، وصاحب إبداع وتجربة شعرية قلما تقاربها التجارب الشعرية الكبيرة، فقد كانت الوطنية والقومية والإنسانية دماً يجري في عروقه، وذلك لأن انتباهته الشعرية وعت منذ البداية أن الشاعر الحق لا يكتفي بالدائرة الوطنية كي يبدو فيها ويتجلى، وإنما هناك دائرتان لابد من الحضور فيهما وعلى نحو مضيء هما الدائرة القومية، والدائرة الإنسانية، وبذلك تصير الدوائر الثلاث الوطنية، والقومية، والإنسانية دائرة واحدة ما إن تبدو القصيدة في واحدة منها حتى تشيع في الدوائر الثلاث الأخر.

وهذا ما عاشه نزار قباني في يفاعته، وكهولته، وشيخوخته، ولم تطو حياته إلا عندما استوى فارساً للشعر والحضور في الدوائر الثلاث.

الشاعر الكبير نزار قباني

وقد رأيت ووعيت مرامي أهل الحوار والتعبير في تونس الذين تناولوا تجربة نزار قباني.. فأدركت أن الكثير من الآراء والأفكار لا تزال توافق آراء وأفكاراً قيلت عن شعره منذ أربعة عقود ونيف.

تلك الآراء التي أرادت لتجربة "نزار قباني" أن تقف عند ماقاله في المرأة فقط، وبالتالي توصيفه بأنه شاعر المرأة ولا شيء غير هذا، أو القول بأنه شاعر غزل، وعواطف، وتنهدات.. وحسب. وهذا، لعمري، ما يجافي الحقيقة، ويبتعد عن الموضوعية، وما أعده قراءةً ناقصةً لتجربة الشاعر، فنزار قباني الذي عادته منابر، ودول، واتجاهات، وتيارات، وجهات، ومؤسسات، ودور نشر، وحدود، وصحف، ومجلات، ومنتديات، ومهرجانات، وملتقيات، وهيئات،.. لم تكن العداوة له ولتجربته الشعرية بسبب الغزل وتوصيف المرأة، وإنما كان بسبب مواقفه الوطنية والقومية الجريئة، وبوصفه رائياً ومفكراً، وصاحب حدس واشتقاق وابتكار، وصاحب مصداقية نادرة المثال.

قلت لهؤلاء الذين أرادوا احتباس نزار قباني في الحيز الغزلي.. إن الرجل صاحب مدونات شعرية كل مدونة منها بحاجة للمواقفة والقراءة والتأمل والتأويل، فهو من قال في المرأة ما لم يقله شاعر عربي.. ليس من أجل انتقاص كرامتها أو تثبيتها في دائرة الأنوثة، وإنما من أجل المزيد من الوعي والانتباه والإدراك بأن المجتمع كله هو من صنع يدي المرأة، لأن المرأة التي تشكل نصف المجتمع، هي الكائن الذي يربي ويعلّم النصف الآخر منه، وأي انتقاص للمرأة يعني الانتقاص من المجتمع، ونزار قباني هو أيضاً الشاعر العربي الذي قال في السياسة ما لم يقله معظم الشعراء العرب أصحاب التجارب، فهو لم يحاب، ولم يداهن، ولم يمتدح، وإنما كان شاعراً صاحب موقف ورؤية، وقد ماشت تجربته الشعرية قضايا العرب كلها طوال القرن العشرين المنصرم، وخصوصاً القضية الفلسطينية التي بكاها فقداً ومأساةً، وأيّدها حين مشى بها أطفال الحجارة الذين طالبهم أن يعلموا الخانعين درس الوطنية والفداء..

قلت لأصدقائي المتحاورين، إن أي قراءة لتجربة نزار قباني تقف عند حدود شعره للمرأة هي قراءة ناقصة وضريرة أيضاً.. لأن نزار قباني في شعره يشكل كتاباً في الحضارة، والوطنية، والفداء، والمحبة، والإبداع..

ويكاد يكون الشاعر العربي الحديث الذي لم يتكسب بشعره، ولم يتقرب به من أحد، لا بل إنه، ومن أجل الشعر، ودع عالم الديبلوماسية، من أجل أن يتفرغ للشعر وشؤونه..

وقلت لهم، أذكر أنني التقيت به في إحدى السهرات الدمشقية وقد جاء إليها على مركب الشوق والمحبة، فسمعته يقول إنه يقرأ ثماني ساعات يومياً من أجل استحضار القصيدة؛ إن قراءة الساعات الثماني التي يمضيها الشاعر في القراءة لم تكن من أجل استحضار قصيدة تقف عند جمال المرأة وأوصافها، وإنما هي قراءة من أجل استحضار قصيدة تشغل المجتمع والرؤيا، مثلما تشغل الحاضر والمستقبل في آن واحد.

وقلت لهم أيضاً لو أن أحداً من شعراء العربية تمتع بموهبة شعرية تشبه موهبة نزار قباني وفطنته لما قرأ سطراً واحداً من ثقافة العرب والغرب في آن، ذلك لأن موهبته موهبة تقول الشعر وتتنفسه تماماً مثلما هو الكائن البشري يقول الكلام ويتنفس الهواء.

وقلت لهم إن أي تحقيب لتاريخ العرب من دون قراءة مدونة نزار قباني الشعرية هو تحقيب ناقص.. ذلك لأنها شغفت بالمصداقية، والوطنية، والموضوعية، والوضوح.

بلى، كان الحوار التونسي حول تجربة نزار قباني حواراً راقياً بدت فيه مؤيدات العقل، والفن، والنقد، والرؤى الصائبات.