على الرغم من أن بقاءها لم يدم إلا شهراً واحداً، إلا أنها استطاعت أن تسجل اسمها التركي في تاريخ "دمشق" كأول سنيما تفتح أبوابها للجمهور؛ هذه السينما حملت اسم "جناق قلعة" وهو مضيق تركي يصل بين بحر "مرمرة" والبحر "الأبيض المتوسط".

سينما "جناق قلعة" كانت تتموضع في مكان "البرلمان"- مجلس الشعب- الموجود حالياً، موقع "eSyria" بحث عن تاريخ أول "صالة عرض سينمائي" في "دمشق"، والمذكورة عند بعض المهتمين بتاريخ "دمشق"، والبداية مع ما ذكره الباحث "قتيبة الشهابي" في كتاب "دمشق تاريخ وصور"، حيث كتب يقول عن هذه السينما: «وأقيم المجلس النيابي "البرلمان" في نفس الموضع الذي كانت تشغله أول "صالة عرض سينمائي" أقيمت في دمشق عام /1916/، والتي لم تستمر في العمل أكثر من شهر واحد؛ إذ في ليلة قمراء استفاق سكان "دمشق" على أصوات "فرقعة" عظيمة، وشاهدوا هذه الدار كتلة من اللهب، نتيجة احتراق "بكرة الفيلم"، - إذ إن الأفلام في تلك الحقبة كانت سريعة الاشتعال-؛ فتحول هذا المبنى المعمول على الطراز الشرقي الأندلسي، والمصمم من داخله على نسق "الأوبرا" إلى ركام». «1»

افتتحت أول صالة للصور المتحركة في دمشق عام /1916/؛ من قبل ناظر البحرية وقائد الجيش الرابع "جمال باشا الكبير" «الملقب بالسفاح

"رشيد جلال" -أحد أهم السنيمائيين، والذي عاش حكاية السنيما السورية من أولها-؛ يذكر سينما "جناق قلعة" في كتابه "قصة السينما في سورية" حيث يقول: «افتتحت أول صالة للصور المتحركة في دمشق عام /1916/؛ من قبل ناظر البحرية وقائد الجيش الرابع "جمال باشا الكبير" «الملقب بالسفاح»، وسميت "سينما جناق قلعة" تخليداً لانتصار الأتراك على الأسطول البريطاني في مضيق "جناق قلعة".

صورة قديمة تظهر بناء البرلمان على أنقاض "سينما جناق قلعة"

عرض في هذه الدار أول فيلم سينمائي من صنع "المانيا"، وهو عبارة عن قصة مثيرة مع فيلم آخر إخباري يمثل استعراض الجيش الالماني في "برلين"، وأذكر أني شاهدت هذا العرض الأول، عندما ذهبت مع والدي الذي دعي إلى حفلة الافتتاح بصفته من الموظفين المرموقين في ذلك الحين، وكنت أبلغ من العمر الثامنة، وتعود بي الذاكرة إلى بعض مشاهد الفيلم الملأى بالمغامرات والمخاطر.

وكان الإقبال على مشاهدة هذه البدعة الجديدة شديداً جداً بصرف النظر عن موضوع الفيلم، إذ إن أكثر المتفرجين ما كانوا ليفهموا منه شيئاً، وعند خروجهم من العرض كانوا يتداولون ما شاهدوه من مناظر معينة من الفيلم كوقوع شخص من الهاوية سحيقة دون أن يصاب بأذى، أو تسلق إنسان على الحائط دون أن يسقط؛ إلى آخر ما هناك من الحيل السينمائية، التي لا يصلح عرضها في أيامنا هذه حتى على الأطفال».«2»

محمود حديد - شيخ كار السينما السورية

الناقد السينمائي "حسين الإبراهيم" ذكر أن "مولد الأمة" هو اسم الفيلم الذي عرض في سنيما "جناق قلعة" وأشار "ابراهيم" إلى أن حياة سينما "جناق قلعة" القصيرة؛ جسدت قصة فيلم "سائق الدراجة الايطالي" الذي يتحدث عن شاب مولع بالسينما تتعرض صالة العرض التي يعمل بها لعملية احتراق فيلم السيللوز، وبالتالي تحترق الصالة والسينما بشكل كامل، وهذا ما أورده الباحث "شمس الدين العجلاني" في مقال تحدث فيه عن هذه السينما بقوله:

«حدث الحريق ليلا عندما انقطع الفيلم أثناء عرضه، ووقع تحت تأثير الحرارة الشديدة المنبعثة من ضوء "القوس الكهربائي"، وكانت الأفلام حينذاك من المواد السريعة الاشتعال، وكانت الآلات العارضة بسيطة لا تتوافر فيها حافظة لبكرات الفيلم أو وسائل إطفاء الحريق ذاتيا، وكان الحريق كارثة لأن الدار كانت متميزة بفخامتها وضخامتها، وهي أول دار سينما أنشئت في "دمشق" على هذا النحو الذي نفتقده في أيامنا هذه».«3»

بينما يرى السينمائي "محمود حديد"- والذي يعد "شيخ كار" للسينما السورية-؛ أن احتراق "سينما جناق القلعة" قد يكون مفتعلاً، خاصة إذا نظرنا إلى هذا الحريق ضمن السياق التاريخي الذي وقع فيه، ويضيف "حديد":

«افتتحت هذه السينما في أوضاع سياسية توصف بالصعبة للحكومة التركية الجديدة آنذاك، وكان نشاط الحركات العربية الداعي للتحرر من الحكم التركي في تصاعد، ونظر أهالي "دمشق" إلى هذه السينما التي افتتحها "جمال باشا السفاح" على أنها "دار للفسق"، ولم تكن تحظى بمباركتهم، لذا اعتقد أن حادثة الاحتراق قد تكون مدبرة، خاصة أن حادثة الاحتراق هذه لم تكن الوحيدة في "دمشق"، وإنما عادت لتداهم أكثر من سينما خلال مدة قصيرة.

والحديث عن سرعة اشتعال فيلم السيللوز صحيح ولكن هناك عدد من الأمور يجب أن أشير إليها، وأبدأ بأن القائمين على صالات العرض السينمائي كانوا يدركون خطورة هذا الأمر، فكانوا يبعدون مستودعات الأفلام عن مكان العرض، وتجد أن معظم الحرائق التي داهمت تلك الصالات جاءت على المستودعات وأماكن العرض في وقت متزامن، والأمر الثاني- خاص بالفنيين- الذين يقومون بعرض الفيلم، فالفيلم لا يحترق إلا إذا ارتفعت درجة حرارته عن طريق تعريضه للضوء وهو في حالة الثبات، وسينما "جناق قلعة" احترقت ليلاً ولم يكن وقت عرض الفيلم.

كما أحب أن أشير إلى نقطة مهمة أخيراً، وهي أنه يمكن لأي باحث أو مهتم أن يراقب موقف أهالي "دمشق" من الأحداث التي كانت تجري حولهم من الصحف الصادرة في ذلك الحين».

ما أشار إليه "حديد" يتوافق مع ما أورده "رشيد جلال" في "قصة السينما في سورية" حيث قال: «انفق على بناء السينما المزخرفة من الخارج والداخل؛ مبالغ طائلة للدعاية وتوجيه أفكار الناس نحو اللهو، وإبعادهم عن الحركات السياسية والوطنية التي أخذ أمرها يستفحل حين ذلك متجهة نحو الانفصال، ولم يعد بالإمكان إعادة بناء السينما، لأن اتجاهات الحرب العامة تطورت بسرعة».

وينهي "رشيد جلال" حديثه عن "جناق قلعة" بهذه الكلمات: «ولا بد من وصف دار سينما "جناق قلعة" بإسهاب بصفتها أول دار أنشئت في "دمشق" على طراز دور السينما في "أوروبا"، فقد صمم البناء من الخارج على الطراز الشرقي والأندلسي، وأثث من الداخل على طراز المسارح الأوروبية، وجعله المهندسون يصلح ليكون مسرحاً للتمثيل أيضاً، ولذلك أنشئت فيه شرفات "لوج" تحيط بالمسرح على شكل "حذوة الحصان"، وكانت أقرب شرفة إلى المسرح لا يزيد بعدها على خمسة أو ستة أمتار.

وكان المشاهدون يتسابقون للجلوس أمام ستارة السينما ظناً منهم أن المشاهدة من قرب أوضح من المشاهدة عن بعد، كما هو معروف في المسارح التمثيلية، وكانت فرقة موسيقية نحاسية تجلس أمام ستارة السينما في باحة مخصصة لها لتعزف أنغاماً تتلائم مع المشاهد المعروضة- إذ كانت الأفلام في ذلك الوقت بلا صوت كما هو معروف-؛ كذلك كانت تعزف الموسيقا العسكرية "مارش" في فترات الاستراحة بين فصل وفصل، وكان الفصل الواحد يعرض في مدة لا تتجاوز العشرين دقيقة لعدم استيعاب الآلة العارضة للأفلام الطويلة، ولذا كانوا يضعون في الإعلانات عدد فصول الرواية.

وكانت فترة الاستراحة تدوم أحياناً أكثر من مدة عرض الفيلم الواحد عندما تكون الفصول قليلة، ولدى ظهور مشاهد مطاردة أو عراك كان العزف الموسيقي يشتد ويشعر المرء وكأنه داخل صلب موضوع الرواية، وتعم الحماسة في نفوس المشاهدين أحياناً حتى لقد تجد الكثيرين يصرخون ويولولون كأن الحوادث التي تجري في الفيلم حقيقة واقعة». «2»

المراجع:

«1»: "دمشق تاريخ وصور" - صفحة /366/ - قتيبة الشهابي.

«2»: "قصة السينما في سورية" من صفحات /5-11/ - رشيد جلال.

«3»: "من حكايا الوطن.. سينما "جناق قلعة"... قريباً من الفن بعيداً عن السياسة"، مقال في "صحيفة الوطن السورية" بتاريخ 4/1/2010.