لم تتوقف "سورية" عبر تاريخها عن إبداع الحياة ودفعها إلى العالم مؤكدة دوماً أنها من المنابع التي لا تنضب، "أليس قندلفت قزما" هي من تلك الإبداعات التي لا ينساها العالم.

تقرّ وثائق الأمم المتحدة أنها واحدة من أولئك النساء اللواتي لا ينسى حضورهن، فقد كانت في سنوات عملها في الأمم المتحدة مثالاً حياً لمن يؤمن بقضية ويدافع عنها وصولاً إلى التماهي معها حد الالتصاق، فكيف إذا كانت قضيتها قضية وطن يراد به السوء وبإمكانها أن تقدم له من روحها وفكرها الدفاع القوي.

إنَّ الرئيس ويلسون يُقْرِئك التحية ويعدك بالاستمرار في الدفاع عن مصالح السوريين، ويودّ أن يهبك منحتين دراسيتين لطالبين سوريين لتحضير الماجستير في "أميركا"

ولدت "أليس قندلفت قوزما" عام 1895 في "دمشق" لعائلة من عائلاتها العريقة، ودرست في مدارسها القليلة آنذاك، ودخلت بعد الثانوية الكلية البروتستانتية السورية (الجامعة الأميركية في بيروت حالياً).

في حديث لمدونة وطن "eSyria" مع الدكتور "عيسى درويش" الكاتب والباحث وسفير "سورية" الأسبق في "الكويت" و"الجزائر" و"مصر"، وأحد السوريين العاشقين لتاريخهم والباحثين دوماً فيه، يقول عنها: «دخلت "أليس" عالم السياسة من لحظة تخرجها في الجامعة، فقد تعرفت مبكراً إلى الزعيم الوطني الدكتور "عبد الرحمن الشهبندر"، إضافة إلى شخصيات أخرى سوف تلعب دوراً مهماً في قادم أيام "سورية" الجديدة، وفي وقت اشتدت فيه الحاجة إلى الخبرات الشابة في معركة تأسيس الدولة السورية بصورتها الحديثة بعد خروج العثمانيين من البلاد وظهور بوادر تقسيمها دولياً وبدء التدخل الدولي في تقرير حدودها».

ويكمل: «بداية عام 1919 كانت انطلاقتها الغربية الأولى عبر بعثة أميركية مقدمة من لجنة كينغ كرين King-Crane الأميركية التي أرسلها الرئيس الأميركي "ويلسون" بعد مؤتمر الصلح في "باريس"، لاستقصاء رغبة السوريين والفلسطينيين في الاستقلال، وبعد أن عجزت اللجنة عن إقناع الفرنسيين بمنح "سورية" استقلالها بحدودها الطبيعية من طوروس شمالاً إلى العريش جنوباً، مع معونة فنية عوضاً عن الانتداب، أرسلت اللجنة تقريرها إلى الرئيس "ويلسون" وبلَّغت رئيس المؤتمر السوري العام "هاشم الأتاسي" والشهبندر اعتذارها لعدم تمكنها من الاستجابة لمطالبهم».

د.عيسى دروبيش

التفت "كينغ" إلى الشهبندر قائلاً: «إنَّ الرئيس ويلسون يُقْرِئك التحية ويعدك بالاستمرار في الدفاع عن مصالح السوريين، ويودّ أن يهبك منحتين دراسيتين لطالبين سوريين لتحضير الماجستير في "أميركا"»؛ يذكر ذلك الدكتور "سامي الخيمي" في أحد منشوراته على صفحته الشخصية على "الفيسبوك" مستفيداً من حديث لوالده، ويضيف: «كانت تلك البعثة من نصيب امرأتين سوريتين اختارهما الشهبندر إلى جانبهما السيدة "نازك العابد"، منطلقاً من حاجة البلاد إلى نساء سوريات يحملن تحصيلاً علمياً عالياً، وقد عادت "أليس" لتعمل مع الدكتور "الشهبندر" بعد عودته من المنفى وحتى اغتياله عام 1940، كما عملت كثيراً مع رئيس الوزراء السوري وقتها "فارس الخوري" حتى ما بعد الاستقلال، حيث كلفها بتمثيل "سورية" في الأمم المتحدة؛ لتكون أول امرأة عربية تقود وفد بلادها، ومن أوائل السيدات على صعيد العالم كله.

توثق الأمم المتحدة لقاءات "أليس" مع العديد من الوفود الدولية هناك، فبتاريخ 5 كانون الثاني 1945 حضرت جلسة الأمم المتحدة الثانية الخاصة بأحوال المرأة حول العالم، وقدمت مداخلتها المتضمنة الحديث عن أوضاع النساء في العالم العربي وفي "سورية" بوجه خاص مركزة على الهدف الكبير وهو تحقيق استقلال "سورية" من الاستعمار الفرنسي، كما دافعت من جهة أخرى في اللقاء الدولي لحقوق المرأة الاقتصادية أثناء الاجتماع الأربعين للأمم المتحدة عن حقوق المرأة في التملك».

من وثائق الأمم المتحدة

سجلت "أليس" حضوراً مميزاً في أروقة الأمم المتحدة، يؤكد ذلك صورها التي التقت فيها بعدد من ممثلي الدول المؤثرة وقتها للدفاع عن القضية السورية، وجذب مواقف هذه الدول باتجاه تأييد فكرة الاستقلال التي تمت بنجاح مع مطلع العالم التالي (1946) متوجةً بخروج الفرنسيين من "سورية". وتذكر السفيرة اللبنانية "مي ريحاني" في كتابها "من بيروت إلى واشنطن" (الجزء الثالث) لقاءها بها في حفل غداء أقامته اليونيسكو وحضره إلى جوارها الشاعر العراقي "أحمد الصافي النجفي" والبروفيسور الفلسطيني المعروف "إسحق موسى الحسيني" وغيرهما، أن: «"أليس" كانت من السيدات الراقيات جداً، تنتمي إلى طبقة مثقفة ندر وجودها في العالم العربي وقتئذ، خاصة أنها تخرجت في جامعة "كولومبيا" في "نيويورك" التي عادت إليها ممثلة "سورية" في الأمم المتحدة.

عبر تاريخها السياسي الحافل لم تنسَ "أليس" اهتماماتها الأدبية التي عرفت عنها، فقد أسست صالوناً أدبياً سياسياً في مدينة "دمشق" في فندق أمية القديم عام 1942، يعدّ الأول من نوعه في البلاد؛ كان يجتمع فيه سياسيو البلد وأدباؤه، مثل: "فارس الخوري، وصلاح الدين البيطار، وعمر أبو ريشة، وميشيل عفلق، وفخري البارودي، ومحمد سليمان الأحمد"، وغيرهم الكثيرون. ومن هذا المنتدى انطلقت عدة حركات سياسية كوّنت أحزاباً مؤثرة في الحياة السياسية السورية اللاحقة، ومنها "البعث"».

مع اختفاء الحياة السياسية في البلاد بعيد الوحدة مع "مصر" انتقلت "أليس" إلى "لبنان" لتعيش فيه وفي فندقها الذي تحب "فندق أمية القديم"، كما يذكر الدكتور "الخيمي" لقاء والده معها في هذا المكان أواخر الخمسينيات.

توفيت السيدة "أليس" منتصف الستينيات في "بيروت" ودفنت فيها.