يتوزّع في حيّ "القنوات" الدمشقي عدد من أسبلة الماء* التاريخية، التي تميّز مع مثيلاتها في الأحياء الأخرى مدينة "دمشق" عن غيرها من المدن، ومن يمرّ في هذا الحيّ لا بدّ أن يجد سبيلاً للماء على جدران بيوته القديمة منها أو الحديثة.

وفي جولة قامت بها "مي خوري" السكرتيرة التنفيذية لجمعية "أصدقاء دمشق" مع زملائها على أسبلة الماء بحيّ "القنوات"، بتاريخ 21 أيار 2016، روت لمدونة وطن "eSyria" مشاهداتها قائلة: «قمنا بجولة في هذا الحي التاريخي الذي يأخذ اسمه من أحد فروع نهر "بردى" الذي يتفرع من ناحية "الشادروان"، حيث يخترق هذا النهر الحيّ، وتسيل مياهه ضمن قنوات رومانية مازالت آثارها موجودة حتى الآن، ومن الأسبلة التي لفتت انتباهي "سبيل أبو الشامات" في زقاق "البطجية"، الذي يحتل الطرف الجنوبي الشرقي من الحيّ، والذي قامت عائلة "أبو الشامات" منذ سنوات بترميمه وإعادة تأهيله على نفقتها الخاصة، مع المحافظة على خصائصه المعمارية المميزة».

إلى أن وجود الأسبلة في التاريخ كان لوناً من ألوان البرّ والإحسان، ودليلاً على رعاية الإنسان؛ من خلال توفير المياه الصالحة للشرب له مهما كان جنسه أو دينه أو عرقه

من جهته يقول "رضوان الدردري" عضو جمعية "أصدقاء دمشق": «كانت الزيارة مفاجئة لأغلبنا؛ إذ لم نتوقع هذا العدد من الأسبلة في حيّ واحد، فهناك سبيل أمام منزل "أبو الشامات" ويحمل ذات الاسم، وسبيل أمام "باب الجابية" في بداية الحيّ، وآخر بالقرب من مسجد في "القنوات". والمفاجأة الأكبر كانت بالحال الذي آلت إليه بعض هذه الأسبلة من الإهمال، وعدم المحافظة على نمطها المعماري وشكلها التراثي الذي أنشئت عليه.

أحد الأسبلة في حي القنوات

وشاهدنا في هذه الجولة أكثر من عشرة منها، إلا أن ما لفت نظر الجميع وشدّ انتباههم هو سبيل "أبو الشامات"، وآخر بجانب "باب الجابية"، هذان السبيلان ما زالا يحافظان على أغلب خصائصهما المعمارية الأصيلة، مع بعض الترميم الذي لم يفقدهما أصالتهما. أما الأسبلة الأخرى في الحيّ، فبعضها رمّم بطريقة أفقدته خصائصه الأصلية، وبعضها الآخر يشغل حالياً من قبل أشخاص لا يقدرون القيمة المعمارية والأثرية لأثر كهذا، فأحد الأسبلة على سبيل المثال تحول إلى مخزن صغير لبيع الدخان، وسبيل "جامع تنكز" في "شارع النصر" تحول إلى محل لبيع منوعات خفيفة وأغلق بقفل حديدي شوه معالمه التاريخية، لكن بالمجمل كانت جولة مميزة لعدد كبير من أسبلة الماء في مساحة ليست كبيرة».

"هيثم طباخة" أحد سكان حيّ "القنوات"، يقول: «في كل حارة من حارات "القنوات" يوجد سبيل للماء الذي كان سابقاً يتغذى على مياه نهر بردى، ويزود سكان الحي والمارين بمياه صالحة للشرب، وفي الماضي كان عند كل جامع "بحرة" تستخدم للسقاية، لكن أغلب هذه الأسبلة اليوم لم تعد صالحة للاستخدام على الرغم من أن بعضها لا يزال يحافظ على شكله التاريخي، إلا أن بعضها الآخر تعرّض لتغيير في الشكل».

سبيل زنبركجي

"محمد فياض الفياض" الباحث في التراث الشعبي، يقول: «كانت الأسبلة ذات وظيفة اجتماعية مهمة ترتبط بعمران المساجد والحمامات وغيرها، وكانت هناك وظائف مرتبطة بها تاريخياً، منها: "السقّاء، والمزملاتي"، ولكل من هؤلاء دور يتعلق بنمط الأسبلة ودورها، وبدأت تختفي في "دمشق" منذ عام 1960؛ إذ إن التخطيط العمراني غير المدروس، أدى إلى تدمير الجزء المهم من التراث الثقافي المادي للمدينة، والجهات المشرفة على هذه الأسبلة اعتبرت أنها لا تحمل إلا دلالة واحدة، هي تقديم مياه الشرب للناس في جميع الأوقات، وأظنّ أن الفوضى واللا مبالاة هما السبب في اختفائها، إضافة إلى المخالفات والتخريب المقصود وغير المقصود.

وحيّ "القنوات" كان يعجّ بالأسبلة المنتشرة في الكثير من الأزقة، وتحمل أشرطة كتابية بخطوط مختلفة، إضافة إلى إطارات خزفية أو من الخزف القاشاني، وكل هذه المفردات اختفت وحلّت محلها مفردات حديثة بعيدة عن الحقيقة، ولو أجرينا مسحاً للأسبلة مقارنة مع الفترات الزمنية الماضية لوجدنا أن الحداثة قتلت كل شيء جميل في حياتنا».

صورة تاريخية لسبيل دمشقي

ويذكر الباحث التاريخي "عماد الأرمشي" للمدونة أهمية الأسبلة الدمشقية بقوله: «عرفت "دمشق" منذ الأزل بكثرة أنهارها، وعذوبة مياهها، ووفرتها في كل الفصول، ومن عادة أهل الشام عبر التاريخ إنشاء أسبلة الماء لتروي عطش عابري السبيل، حيث توجد في معظم الأسواق، وعلى جنبات الجوامع والمدارس القديمة. وتحدث الرحالة والباحثون في كتبهم وأشعارهم عن مياهها، ومنهم: "محمد بن أحمد بن جبير" الأندلسي عندما زار "دمشق" سنة 578 للهجرة في أولى رحلاته إلى المشرق، فقال: "إن أرض دمشق سئمت كثرة الماء، فاشتاقت إلى الظمأ"؛ كناية عن كثرة مائها».

ويشير "الأرمشي" «إلى أن وجود الأسبلة في التاريخ كان لوناً من ألوان البرّ والإحسان، ودليلاً على رعاية الإنسان؛ من خلال توفير المياه الصالحة للشرب له مهما كان جنسه أو دينه أو عرقه».

وتذكر مصادر أن عدد أسبلة الماء يبلغ 120 سبيلاً ضمن أسوار "دمشق"، ويرجع تاريخها إلى الفترات الإسلامية المختلفة كالعصر الأموي والمملوكي والعثماني.

  • أسبلة الماء: هي جمع كلمة سبيل؛ أي المكان الذي يوفر الماء لإرواء ظمأ العابرين مجاناً.