أحبَّ "دمشق" فوثّق معالمها وحرفها في لوحات فنية مذهلة، ونقل جمالها من مكامنه بحرفية عالية مرهفة، فغدا قامة فنية شامخة، ساهمت في كتابة صفحات رائعة في سجل الإبداع الفني.

مدونة وطن "eSyria" التقت الفنان التشكيلي "خلدون شيشكلي" بتاريخ 20 كانون الثاني 2018، فحدثنا عن بدايته ومسيرته الفنية، قائلاً: «ولدت في "ريف دمشق" في منطقة "دوما" عام 1944، وكبرت فيها ضمن أسرة فقيرة، تنظر إلى الفن نظرة عدائية باعتباره حراماً، لكنني صمدت وثابرت على تطوير هوايتي، فقد كان لدي شغف الرسم منذ أن كنت في الابتدائية، وفي عام 1965، التحقت بشعبة الحفر والطباعة في كلية الفنون الجميلة بجامعة "دمشق"، ونلت الإجازة بدرجة امتياز عام 1969، إذ كان مشروع تخرجي عن مدينة "معلولا"، فقد كنت أذهب إليها لأستوحي واقعها وأقوم برسم معالمه، ثم التحقت ببعثة دراسية إلى "بلجيكا"، وفي عام 1983، حصلت فيها على المرتبة الأولى في دبلوم الدراسات العليا، شعبة الرسم الحي، والمرتبة الثانية في دبلوم الدراسات العليا، شعبة الحفر، من المعهد العالي للأكاديمية الملكية للفنون الجميلة في جامعة "أنتويرب" في "بلجيكا"، بعدها عدت إلى "دمشق" عام 1985، وبدأت عدة نشاطات فنية واسعة، وخلال تلك المدة كنت قد عملت عضواً في هيئة التدريس في كلية الفنون الجميلة بجامعة "دمشق" منذ عام 1974 وحتى عام 2004، وأيضاً كنت عضواً في نقابة الفنون الجميلة، والاتحاد العام للفنانين التشكيليين العرب، وفي عام 2004، تقاعدت وتفرغت لإتمام كتابي "باعة ودكاكين أيام زمان"، الذي بدأت العمل فيه عام 1983، واستغرق خمسة وعشرين عاماً لطباعته ونشره».

لا شك أن الأحلام الخيالية المنبثقة من الواقع رائعة، لكن عندما تمتاز بالتراث تكون أروع، وذات فتنة أخاذة تنطلق من هذا التركيب في أعمال "خلدون"، حين يندم مع أحاسيسه المرهفة، وتتسابق مع خيالاته اللا محدودة الآفاق، ويعود ثانية إلى البيئة الدمشقية أو الريفية التي نشأ وترعرع فيها، ويخرج من كل ذلك رؤية جديدة انفرد بها، ودعمتها التقنيات المختلفة التي أحاط بها وأصبح مصدراً لجوانبها، تموج بالزخارف النباتية والحيوانية والهندسية، وتنحشر فيها الوجوه ناعمة بأوضاع حالمة، أو المباني ذات المنظور الغائب، من خلال خطوط غاية في النعومة والدقة تعكس هذه الرؤية الجديدة

عن أهم محطاته الحياتية المهمة في رحلته مع الإبداع، قال: «في مرحلة النشأة المبكرة كنت محباً للألوان الزيتية والمائية، وبرعت في استخدامها، ومعظم أعمالي فيها دارت حول المناظر الطبيعية، إذ أنجزت تلك الأعمال بأسلوب تسجيلي يحاكي الواقع. وبعد مرحلة الدراسة وقبل سفري لجأت إلى الأسلوب التجريدي الذي استمريت به في رسم المواضيع الشعبية مع نظرة أعمق إلى اللون، وبعد عودتي من السفر، أصبح جُلّ تركيزي على الأسلوب التسجيلي مع محافظتي على الحسّ الغرافيكي والحفر؛ وهو من الفنون التي تعتمد الخط؛ من خلال تهشير الخطوط بتركيب الخطوط بعضها فوق بعض، لنصل إلى الدرجة السوداء من تراكم الخطوط، ونخلق حواراً ما بين أشد الألوان تناقضاً بالوجود (الأبيض والأسود)، وهناك أنواع للحفر منها الحفر على الخشب والمعدن واليورانيوم والحجر والحفر، بواسطة الشاشة الحريرية، وهذا الاختصاص يتطلب مقدرة وتقنية عالية، فالخطأ فيه مستحيل».

تكريم وزارة الثقافة السورية للفنان عام 2017

وعن مؤلفاته، أضاف: «قمت خلال دراستي بكلية الفنون الجميلة في "دمشق" بإعداد دراسة عن أستاذي الفنان "غياث الأخرس"، وثّقت بها حياته الفنية وأعماله، وتم الاحتفاظ بنسخة منها في مكتبة الكلية. كما بدأت إعداد كتاب في عام 1983 بعنوان: "باعة ودكاكين أيام زمان"، أرفقت به خمسمئة لوحة فنية، كل لوحة تمثّل قصة مختلفة تماماً عن باقي اللوحات، وثقت بها "الشام القديمة" من خلال جمعي بين الأسلوب الواقعي الشعبي البسيط والأسلوب البنائي بألوان شرقية عكست شعوري بالارتباط العميق وحبّي الشديد للشام.

أمضيت خمسة وعشرين عاماً لإنجاز هذا الكتاب، ومزجت فيه الخيال المنبثق عن الإحساس والتراث الشعبي في مدينتي الخالدة "دمشق" كما أتصورها، وتمت طباعته عام 2006 في دار البشائر بـ"دمشق"، وحالياً أقوم بإعداد كتاب عن سيرتي الذاتية».

سوق وفندق علي باشا إحدى لوحاته

وعن معارضه الخاصة والمشتركة، أضاف: «أقمت العديد من المعارض الفردية والمشتركة، كان أولها معرض خريجي الحفر في المركز الثقافي العربي بـ"دمشق" عام 1970، وفي عام 1973، أقمت معرضاً فردياً في صالة نقابة الفنون الجميلة بـ"دمشق"، ومعرضاً فردياً في "السويد" عام 1974، وشاركت في معرض الحفر لطلبة الدراسات العليا في جامعة "أنتويرب" في "بلجيكا" عام 1981، وحصلت على جائزة "كارل فيرلات" العالمية من المتحف الجيولوجي بمدينة "أنتويرب" في "بلجيكا" إثر مشاركتي في معرض "أصدقاء الحيوان". وفي عامي 1983-1984 أقمت ثلاثة معارض في "بلجيكا".

وفي "دمشق" أقمت معرضين على التوالي عامي 1984-1985، وفي عام 1986 أقمت معرض الفنون التشكيلية في "لبنان"، ومعرضاً شخصياً ومعرضاً مشتركاً في عامي 1987-1988 في "كاليفورنيا" في "الولايات المتحدة"، ثم في الأعوام 1990-1991-1992 أقمت ثلاثة معارض في "دمشق"؛ اثنان مشتركان، وواحد فردي، وفي عام 1993، أقمت معرض الفن التشكيلي السوري المعاصر في "لبنان". وفي "مصر" عام 1994، معرض "بينالي مصر الدولي لفن الغرافيك"، وفي "اللاذقية" معرض "بينالي المحبة الثالث للفنون التشكيلية"، وفي عام 1999، المعرض السنوي للفنون التشكيلية السورية، وفي عام 2014، عُرضت لوحات كتاب "باعة ودكاكين أيام زمان" في معرض بـ"نيويورك"، وأخيراً في عام 2015، أقمت في "دبي" معرض حفر ورسوم عن "دمشق"».

معرض حفر ورسوم عن دمشق في دبي

الفنان الكبير "ممدوح قشلان" في كلمته له أثناء افتتاح أحد المعارض الفردية للفنان "خلدون"، الذي أُقيم في صالة "إيبلا" للفنون بـ"دمشق" عام 1984، قال: «لا شك أن الأحلام الخيالية المنبثقة من الواقع رائعة، لكن عندما تمتاز بالتراث تكون أروع، وذات فتنة أخاذة تنطلق من هذا التركيب في أعمال "خلدون"، حين يندم مع أحاسيسه المرهفة، وتتسابق مع خيالاته اللا محدودة الآفاق، ويعود ثانية إلى البيئة الدمشقية أو الريفية التي نشأ وترعرع فيها، ويخرج من كل ذلك رؤية جديدة انفرد بها، ودعمتها التقنيات المختلفة التي أحاط بها وأصبح مصدراً لجوانبها، تموج بالزخارف النباتية والحيوانية والهندسية، وتنحشر فيها الوجوه ناعمة بأوضاع حالمة، أو المباني ذات المنظور الغائب، من خلال خطوط غاية في النعومة والدقة تعكس هذه الرؤية الجديدة».

وفي لقاء "محمد بدر الدين الأيوبي" أحد طلاب الفنان "خلدون شيشكلي" عنه يقول: «فنان مميز، قدم مجموعة من أهم الأعمال عن "دمشق"، وذلك ليس بسبب التقنية أو اللقطات التي اختارها لتوثيق "الشام"، وإنما لقدرته على الجمع بين الأسلوب الواقعي الشعبي البسيط والأسلوب البنائي بألوان شرقية، حيث يعكس شعوره بالارتباط العميق مع المواضيع التي يطرحها، وعند ما تسأله عن سبب اختياره لتلك المواضيع يقول: (الحكايات التي كانت موجودة أيام زمان، لابد أن تنقل بتقنية وأفكار مترجمة) فهو يرى تلك التقنية تنفيذ الأعمال بطريقة الحفر المميز، ثم طباعتها.

أي شخص يرى أعمال الفنان "خلدون" يشعر بطيبة وعفوية وصدق هذا الفنان في تأدية أعماله الغرافيكية، التي لا يوقفه أي شيء عن إتمامها، فهو جعلنا نعيش في أجواء الماضي الزاخرة، من خلال تلك النقوش والرسوم الصانعة لفن شعبي صادق بأفكاره».