طغت شخصية "أبو عنتر" الدرامية على شخصيته الحقيقية طوال مسيرته الحافلة بالإبداع والوجع الذي رافقه في نهايتها المأساوية. وكان لخروجه من رحم عائلة عرفت بأنها أكبر عائلة فنية في الوطن العربي، الطريق لاستمرار الإرث الفني المتميز، فمثّل في الذاكرة الجمعية قصة "القبضاي" الذي لم يستطع صناع الدراما السورية محوها واقتناص من يملأ فراغها.

مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 3 آب 2018، فتحت ملف الفنان الكبير "ناجي جبر" لتوثق عن حياته الحافلة، والتقت الكاتب الروائي "حسين ورور" ليتحدث عن بدايات الراحل، فقال: «ولد بتاريخ 26 تشرين الأول عام 1940 في مدينة "شهبا" بمحافظة "السويداء"، عندما كان الفن والمسرح حالة خاصة غير محببة من قبل المجتمع. لكن بروز شقيقه الأكبر الفنان الكبير "محمود جبر" كان العامل الحاسم في كشف موهبته واعتلائه الخشبة بعدة أدوار كانت كفيلة بأن يعشق التمثيل ويخطط لحياته الكاملة، فقدّم مع شقيقه عدداً من المسرحيّات في نهاية الستينات، مثل: "صياد وصادوني"، و"طارت البركة"، و"سراديب الضائعين"، فكانت هذه الأدوار التي صنعها مع الرعيل الأول في المسرح السوري كفيلة بالانطلاق، ليقدم بعدها "النهب"، و"عشّك يا بلبل". ومن خلال ما كسبه من وجوده في مسرح شقيقه، انطلق نحو فضاء آخر باشتراكه في مسرحية "حفلة سمر من أجل 5 حزيران" عام 1970، و"مغامرة رأس المملوك جابر" عام 1972».

المسرح إشارات وومضاتٌ وجدانيّة، وهو مدرسة كبيرة، ومنبر شريف، والمواطن اليوم وفي ظل هذه التداعيات، بحاجة إلى ابتسامة من دون استجداء، وعلينا أن نبتعد عن البذاءة والتهريج والتسويف، نريد أن تكون الابتسامة في مكانها الطبيعي، ولا نريد أن ننتزع الابتسامة المغلّفة بالذهب

يقول الراحل في إحدى مقابلاته عن المسرح: «المسرح إشارات وومضاتٌ وجدانيّة، وهو مدرسة كبيرة، ومنبر شريف، والمواطن اليوم وفي ظل هذه التداعيات، بحاجة إلى ابتسامة من دون استجداء، وعلينا أن نبتعد عن البذاءة والتهريج والتسويف، نريد أن تكون الابتسامة في مكانها الطبيعي، ولا نريد أن ننتزع الابتسامة المغلّفة بالذهب».

دوره في مسلسل أهل الراية

كان عام 1974 انعطافاً كبيراً في مسيرته المتجددة، عندما دخل عالم "دريد لحام"، و"نهاد قلعي" الذي له الفضل الأول في رسم ملامح الاسم الذي التصق به حتى الممات. دخل مسلسل "صح النوم"، وكانت شخصية "أبو عنتر" التي لعب فيها دور "القبضاي" بطريقة محببة تبعث الفرح والابتسامة لدى الناس، فاشتغل على الشخصية بتفاصيل دقيقة، يقول الكاتب الصحفي "ماهر منصور" عن هذه المرحلة في حياة "جبر": «كان الفنان "نهاد قلعي"، بوصفه كاتباً لمسلسل "صح النوم" يقوم بتطوير شخصيات مسلسله بناء على تفاعل الممثلين الذين يجسدونها، فيعيد بناءها الدرامي، ويزيد من فاعليتها في الحكاية على نحو يوائم بين الشخصية وقدرات الممثل الذي يؤديها، وهو ما فعله مع شخصية "أبو عنتر" التي أضفى بدوره "ناجي جبر" عليها شيئاً من روحه، فكانت النتيجة على النحو الذي عرفناها به: (صاحب مشكلات) بزي دمشقي شعبي، وذراع مفتولة العضلات يكشف عريها عن كلمة (باطل) التي تعبر عن طباع صاحبها، وتلك الصفات الشكلانية أضيفت إليها لوازم كلامية مغرقة بشعبيتها أيضاً، مثل: (عرضية)، (مالا فكاهة)، (مالا مازية)، وأصبحت مع الأيام جزءاً لا يتجزأ من ملامح الشخصية».

ويتابع "منصور" حديثه عن أعمال الراحل التلفزيونية: «منذ ولادتها، راهن "ناجي جبر" على شخصية "أبو عنتر"، التي فتحت له باب الذاكرة، فرسخ في أذهان المشاهدين من خلالها، حتى كادت تغيّب اسمه الحقيقي في ذاكرتهم، وظلّ الرجل مخلصاً للشخصية، يحملها معه أينما يحلّ، وفي ذلك كان مقتل نجوميته، فقد ولدت شخصية "أبو عنتر" في مسلسل "صح النوم" حيث كان "الكركتر" هو الأساس، وقد ساهمت طبيعة الحكاية بتكريسها و"غوار الطوشة" كثنائي فني، نشأ على هامش ثنائي "دريد ونهاد"، إلا أن تلك الثنائية بدت بعمر قصير، فما استطاعت أن تعمّر بعد "صح النوم"، إلا بعملين اثنين هما "ملح وسكر"، و"وين الغلط"، الذي أنجزه "دريد لحام" مع "محمد الماغوط".

من آخر أعماله في مسلسل بيت جدي

وأعاد "لحام" إحياء "أبو عنتر" في مسلسله "عودة غوار"، وللمفارقة كان الحفاظ على تفاصيل شخصية "أبو عنتر" واستثمارها درامياً في مسارب جديدة، مقابل تخلي "غوار" عن بعض من صفاته لمصلحة مقتضيات البطولة، سبباً في تفوق وطغيان نجم "ناجي جبر" في المسلسل على نجم بطله "دريد لحام".

خارج سرب "صح النوم" وامتداده، وجد "ناجي جبر" نفسه مع شخصية "أبو عنتر" وحيداً في التلفزيون، أسيراً لما قدّر لها من حكايات دفعت به إلى الصف الثاني من الأدوار، حين انتقل بها إلى السينما. فكان لا بد من إعادة البناء الدرامي للشخصية بما يتناسب وحكاية جديدة تحافظ على حرارة حضورها، وهو الأمر الذي نجح فيه على خشبات المسرح، فأحدث تغييراً في طبيعة "أبو عنتر"، بتسخير قوّته وتمرّده لمصلحة الناس، حين راح يعبر عن هموم الشارع السوري ومشكلاته وآماله في مسرحياته، وينتقد الممارسات الخاطئة في المجتمع، ولا سيما الفساد.

مشهد من إحدى مسرحياته

تلك التجربة المسرحية الاجتماعية الناقدة سرعان ما نقلها "جبر" إلى الإذاعة، وعاد بها إلى التلفزيون من خلال مسلسله "يوميات أبو عنتر"، لكن مقتضيات الحكاية في هذا المسلسل أجبرته على التخلي عن زي شخصيته التقليدية وجبروتها أيضاً، وأبقت على اسمها فقط».

تبلغ حصيلة أعماله في السينما أكثر من ثلاثين فيلماً سينمائياً، فعاصر العديد من نجوم السينما العرب، حيث يتحدث الإعلامي "جودت غانم" عن هذه المرحلة بالقول: «شارك في العديد من الأعمال العربية المشتركة مع كل من الفنانين: "شادية"، و"نجاة الصغيرة"، و"ميرفت أمين"، و"محمود عبد العزيز"، و"يسرا"، و"إغراء"، و"عمر خورشيد". ومن الأفلام التي اشترك فيها: "أبو عنتر بوند"، "عودة حميدو"، و"غوار جيمس بوند"، و"الجائزة الكبرى"، و"الاستعراض الكبير"، و"العندليب"، و"غراميّات خاصّة"، و"أموت مرتين وأحبك"، و"باسمة بين الدموع"، و"شيطان الجزيرة"، غير أنه لم يكن البطل المطلق لأي فيلم.

لكن ذلك لا يمنع أن الراحل تمرد أخيراً على شخصيته في عدد من الأدوار التلفزيونية، مثل دوره في مسلسل "أيام شاميّة" للمخرج "بسام الملا"، وبعدها تتالت المسلسلات الشاميّة التي شارك فيها، مثل: "الخوالي"، و"حارة الطنابر"، و"أهل الراية"، و"أولاد القيمريّة"، و"الحصرم الشامي"، و"بيت جدّي"، الذي كان نهاية مشواره الدرامي بعد إصابته بمرض السرطان، ورحيله عن الدنيا عام 2009 تاركاً إرثاً كبيراً لدى الناس، وذكريات لا يمكن محوها بسهولة لدى رواد المسرح».

يذكر أن الفنان "ناجي جبر" ينحدر من أسرة فنية كبيرة، فهو شقيق الممثلين "محمود، وهيثم جبر"، وعمّ الفنانتين "ليلى، ومرح جبر"، وعدد كبير من نجوم هذه العائلة، ويحمل ابنه "مضر" جينات الفن، ويحاول سلوك الدرب الشائك بكل صبر ومثابرة.