جدلٌ واسعٌ بين الأوساط الفنية والنقدية الغنائية حول الأغنية السورية اليوم، هناك من يرى أنها أضاعت هويتها، وهي أمام منعطف خطر؛ يجب إعادتها إلى طريقها الصحيح، لترتقي من جديد.

مدونة وطن "eSyria" فتحت النقاش مع بعض المغنين والمعنيين حول هذا الموضوع، والتقت بتاريخ 14 نيسان 2019، "عاطف صقر" الكاتب والناقد الموسيقي والملحن، في "دار الأوبرا"، وبدأ حديثه قائلاً: «بحكم التاريخ والجغرافية والتركيبة السكانية المتعددة، يعدّ التراث الغنائي السوري من أغنى الموروثات الفنية العالمية، وأكثرها تنوعاً. تراث أثَّر وتأثَّر، ألْهَم واستلهم، سواء من حيث الفلكلور الممتد منذ اللوح الأوغاريتي الأول، مروراً بالحقبة الرومانية، فالإسلامية وما نتج عنها من تمازج فريد، ففي الفلكلور السوري يمكن للباحث ملاحظة ألوان البادية السورية الفراتية، والتراث الحلبي وقدوده وموشحاته، وأغنيات وسط "سورية" والساحل، وأغنيات "دمشق" والجنوب، إضافة إلى الأغاني الكردية والسريانية والآشورية، وغيرها».

الأغنية السورية عريقة تحتاج بالفعل إلى جهود صادقة مؤسساتية على الخصوص كي يمكن استعادة بريق تلك الأغنية التي ظلمها أهلها وأصحابها

وأضاف: «شهدت بدايات القرن العشرين نهضة فنية على يد موسيقيين ومغنين كبار، مثل: "أبي خليل القباني، وعمر البطش، وماري جبران... إلى آخره"، وبعدهم "محمد محسن، وصباح فخري، ورفيق شكري، وصبري مدلل، ومحمد خيري"، ثم "عبد الفتاح سكر، وسهيل عرفة، وزهير عيساوي، وفهد بلان، وكروان، وإبراهيم صقر"، وغيرهم من النجوم الذين تألقوا كسوريين، لكن بغنائهم ألواناً ليست سورية، مثل: "ميادة حناوي، وربا الجمال، وجورج وسوف"، وقد لاقت الأغنية السورية رواجاً كبيراً في الأوساط العربية، بحكم إخلاصها للفن والإبداع، سواءً من حيث الكلمات أو اللحن أو الأصوات الجميلة. كل هذه القيمة المعنوية الكبيرة كانت عرضة -يا للأسف- لقصور إعلامي مؤسساتي مثير للشفقة، فبدأت -بعد غياب جيل الرواد- مرحلة تراجع، اختفى فيها التراث الغنائي الرائع بشقيه الفلكلوري والإبداعي، وأفسحت ساعات البث الطويلة لموجة هابطة من الأغاني والأصوات الرديئة، وأنماط مكررة لا تشبه التنوع السوري الكبير، لتخرج أغنية مشوهة غير أصيلة بالمعنى التراثي والفني الإبداعي، وهنا لا أنفي القصدية ولا أؤكدها، لكن بتوصيف ما حصل يتساءل المتابع عن سبب تغييب مواهب حقيقية وملحنين وشعراء، وأنماط غنائية تعكس التنوع السوري، فيما يستمر العزف على موجة الهبوط والترويج لها وتقديم رموزها الرديئة كحاملي لواء الأغنية السورية، وقد ازداد الأمر سوءاً بعد الأزمة في "سورية"، فخرجت أغنية "مأزومة"، ويا للأسف اجتاح ذلك أوساط الجمهور إلى درجة أثرت في الذائقة العامة، وبتنا نخشى من انحطاط فني عام لا يمكن إصلاحه، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الانتشار شيء، والجودة شيء آخر بالمعنى النقدي الفني».

ليندا بيطار

أنهى "صقر" حديثه قائلاً: «الأغنية السورية عريقة تحتاج بالفعل إلى جهود صادقة مؤسساتية على الخصوص كي يمكن استعادة بريق تلك الأغنية التي ظلمها أهلها وأصحابها».

تجد "ليندا بيطار" مغنية ورئيسة قسم الغناء في المعهد العالي للموسيقا، أن هناك أملاً في الجيل الأكاديمي الجديد، حيث قالت: «كانت الأغنية السورية في الستينات والسبعينات في أوجها، واليوم نفتقد هذا الأوج، لأسباب كثيرة، ربما لكثرة القنوات الفضائية وتحديداً في "لبنان"، وأصبح الناس لا يميزون بين لهجتنا السورية واللهجة اللبنانية، فتداخلت الأمور، ونحن اليوم نحاول قدر المستطاع أن نعمل شيئاً له علاقة بالأغنية السورية، وهناك الكثير من المحاولات من جيل الشباب، وجميعهم موهوبون، وهذا ما أراه من خلال تدريسي بالسنوات الأخيرة في المعهد العالي للموسيقا».

فراس القاضي

المغني "عماد خلف"، يقول: «تمتاز الأغنية السورية ببصمتها الواضحة في عالم الغناء في المنطقة، وتتميز بوضوح الكلمة وسلاسة الأداء وتنوع اللهجات والمقامات، ناهيك عن وجود مدارس للغناء السوري الأصيل، فكل منطقة تتميز بلونها الخاص، فهناك الأغنية الجبلية، الحلبية، الساحلية، الفراتية، الجزراوية، وغيرها، إضافة إلى منطقة الجنوب بشقيها، ويعرف القاصي والداني أن منطقتنا مهد الحضارات وأول نوتة موسيقية، والآلات الموسيقية البدائية كالقيثارة السومرية، ويا للأسف اليوم تتجه أغنيتنا نحو الهبوط؛ وذلك لأسباب كثيرة، منها الدعم الضئيل من الجهات المعنية، وابتعادنا عن الأصالة المعتادة، ودخول آلات غريبة على تراثنا، كالأورغ مثلاً».

أما "عيسى الضاهر"، شاعر وكاتب غنائي، فيؤكد أن الأغنية الأصيلة في أدراج الذاكرة، حيث قال: «الأغنية السورية الأصيلة الآن في ذاكرة الناس، فقدت هويتها لدى جيل الشباب والمعاصر والناشئ، والمشكلة في غياب تبنٍّ حكومي ومؤسساتي عام وخاص لأغنيتنا الأصيلة، الأمر الذي يهدد التراث اللا مادي الخاص بالأغنية السورية، أستطيع القول إنها اليوم في غرفة الإنعاش، وبحاجة ماسة إلى أطباء حقيقيين، والحل في إعطائها أهمية كبيرة من قبل وزارتي الإعلام والثقافة، ولا بد من إطلاق برامج ومسابقات تعنى بحفظ وتوثيق الأغنية السورية وإعادة إحيائها، وهكذا إن لم ندق أجراس الخطر، وبعد زمن ليس ببعيد، ستكون من المنسيات».

عاطف صقر

بينما يرى الإعلامي والموسيقي "فراس القاضي" أننا نمتلك تراثاً غنائياً، وليس هوية غنائية، حيث يقول: «على الرغم من أن لكل محافظة سورية نمطاً غنائياً يميزها، مثل القدود الحلبية في "حلب"، التي صارت ماركة حلبية مسجلة، و"العتابا" في الساحل السوري، و"الفراقيات" والأغاني التي أنتجت منها في المنطقة الشرقية، وبقية الأنماط الغنائية في مختلف المحافظات، لم تستطع الأغنية السورية تكوين هوية مستقلة تُعرف وتُميّز من خلالها بوجه عام، خاصة أن كل ما ذكرناه سابقاً يندرج تحت باب التراث، وهو في كثير من المواضع تراث مشترك بين "سورية" ودول الجوار، وربما السبب في عدم وجود هذه الهوية، عدم وجود مشروع جامع لهذه الأنماط من الممكن تطويره وتحويله إلى بصمة غنائية، بل يقتصر الأمر على بعض المهرجانات الغنائية التراثية التي نشكر القائمين عليها؛ لأنهم يحاولون إنقاذ ما تبقى من الغناء السوري.

لا ينقص "سورية" الملحنون المبدعون، ولا كتّاب الكلمات المُجيدون، ما ينقصها رؤية استراتيجية ومشروع وطني شامل يستطيع صناعة ما لم يُصنع حتى الآن، وأظن أن هذا دور وزارة الثقافة».

الحل يكمن في دعم التجارب الشبابية الجادة، هكذا تقول "يارا إبراهيم" المغنية الشابة، وتتابع: «تتراجع أغنيتنا تراجعاً مخيفاً، يرافق ذلك قلة الاهتمام، إلى حد لم يعد يجذبنا أي تجارب، وهنا يجب على المعنيين أن يدعموا التجارب الشبابية الجادة، وأريد أن أنبه إلى تجربة الفنانة "ليندا بيطار"، أظن أنها الوحيدة التي تسمعنا اللون السوري الأصيل».

يجد "مالك يعقوب" المغني الشاب، أن عصر السرعة واللحن السريع سبب من أسباب ضياع الهوية الغنائية، حيث قال: «أرى أن الهوية الغنائية لدينا ضاعت بنسبة كبيرة، واليوم الأفضلية للحن السريع والهابط، على الرغم من وجود نسبة ضئيلة من المتطوعين يحاولون الحفاظ على الإرث الثقافي الغنائي».