نما حسّها الأدبي وذائقتها الشعرية بين حبات العنب وأزهار الياسمين، فشكلا طوقاً التف حول عنقها، ولم يكن الفكاك ممكناً والتحليق عالياً، إلا بالقراءة والمطالعة وامتلاكها أدوات فنية تتناسب مع خصائص اللون الأدبي الذي تختاره، فتلامس الواقع والخيال بصيغة إبداعية متفردة.

مدونة وطن "eSyria" تواصلت مع القاصّة "الحلبوني" بتاريخ 8 حزيران 2019، فعرفتنا عن نفسها قائلة: «نشأتُ في أحد أحياء "دمشق القديمة"، وكنت أكّوِّر كفي تحت الصنبور كي أملأه بماء الفيجة ثم أشربه، وأصعد الدَرج الخشبي وأقطف حبات العنب البلدي من العريشة المتسلقة على السطح في بيت جدّي، وأجمع أزهار الياسمين المتناثرة على الدَرج وأصنع منها أطواقاً؛ تلك كانت أقصى حالات السعادة بالنسبة لي، وإلى اليوم ما زالت تلك الذكريات تمدّني بالكثير من القصص والمشاعر التي تحملني على الإبداع. في طفولتي المبكرة سمعت من الكبار عن الحروب؛ في "لبنان والعراق وفلسطين"، كنتُ أتساءل دائماً: لماذا لا تتوقف الحروب؟ كان الشعور بالخوف من الحرب يرافقني دوماً».

في المحطة ## يقف الجنديُّ طوال النهار؛ ينتظرُ حافلةً ملونةً وسائقاً مبتسماً ## في الزقاق العتيق ## يجرب أجراسَ كلِّ الأبواب؛ بحثاً عن جرسٍ له صوتُ الكناري ## على قمةِ الجبل ## يرفعُ رأسه نحو السماء؛ ينتظرُ غيمةً تمطرُ قلوباً وردية ## في الحديقة ## يجلسُ متربعاً على الأرض يعبثُ بإصبعه بالرملِ الأحمر؛ يبحثُ عن طفلٍ حالمٍ لا يحملُ بندقية ## في غرفةِ العمليات ## يفتحُ الجراح جمجمته؛ ## ينتزعُ الألوان من رأسه ثمّ يغلقها ويعيده إلى المعركة

وعن بداياتها قالت: «بدأت كتابة الشعر منذ طفولتي، وحين لمس والداي موهبتي جلبا الكثير من الكتب وطلبا مني ألا أتوقف عن القراءة، وبالفعل حين كنتُ في الخامسة عشرة من عمري كنتُ قد قرأت عشرات الكتب الأدبية والعلمية. لكن مشاغل الحياة سرقت شيئاً من اهتماماتي الأدبية، فتوقفت عن الكتابة، ولم أتوقف عن القراءة والتفكير المستمر بالنشر، إلى أن أرسلتُ مقالاً إلى صحيفة "تشرين" عام 2012 إثر صدمة الحرب التي أحدثت في داخلي غلياناً رهيباً جعل الحبر يتسرب من بين أصابعي، ثم واظبت على نشر المقالات والقصائد والقصص في "تشرين" والأسبوع الأدبي وملحق "الثورة" الثقافي، إلى أن صدرت مجموعتي القصصية الأولى عام 2015 عن الهيئة العامة للكتاب، وتتالت الإصدارات بعد ذلك».

من أعمالها الأدبية "النجاة غرقاً"

عن الأنواع الأدبية التي تناولتها وكيف نمّتها قالت: «الأنواع الأدبية التي كتبتها المقالة والقصة القصيرة وقصيدة النثر، في الأوقات التي أتوقف فيها عن الكتابة أحمل عبئاً ثقيلاً لا أتحرّر منه إلا حين أنهي كتابة نصّ من الأنواع التي ذكرتها سابقاً، حيث أصبح خفيفةً كعصفور وأحلّق عالياً. أظنّ أن الموهبة لا تكفي، فالقراءة المستمرة في كافة المجالات وليس الأدب فقط، والدراسة الأكاديمية والبحث والمتابعة، كل هذه الأمور تصقل موهبة الكاتب وتغذيها، وإلا فإنها ستخبو بسرعة، كما أن الثقافة شرطٌ أساسي للولوج في عالم الأدب، يا للأسف أرى اليوم بعض دور النشر تنشر كتباً ملأى بالأخطاء اللغوية والعلمية، وهذا الأمر مرفوضٌ تماماً؛ إذ على الكاتب أن يكون متمكناً من لغته ومعلوماته قبل أن يطرحها للنشر. القصة القصيرة وقصيدة النثر جنسان أدبيان متقاربان يلتقيان في نقاطٍ كثيرة، كالتكثيف والسرد والتصوير والمفاجأة والإدهاش، إلا أنَّ لكلٍّ منهما مذاقه المتميز، وصنعته الخاصة؛ إذ عليك أن تضبط جرعة الجنون كما تضبط كمية الملح في الطعام، قليله جيد، لكن كثيره يفسد الطبق. بالنسبة لي ثمّة شخصٌ مجنونٌ، وآخر عاقلٌ يقطنان في رأسي، حين أكتب الشعر أطلق المجنون، وحين أكتب القصة أطلق العاقل، والقاصّ الناجح برأيي هو الذي يتمكن من إدهاش المتلقي وتحريض خياله وإثارة الأسئلة لديه بقالبٍ بسيطٍ بعيداً عن التعقيد».

الكتابة بالنسبة لها هي السحر والجنون والدهشة، والهروب من الواقع والتحليق إلى عوالم أخرى شبيهة بالأحلام، وعن تعريفها لأسلوبها الأدبي وتأثير البيئة المحيطة بها قالت: «أستمدّ ثروتي اللغوية من البيئة المحيطة بي، فعلى الرغم من دراستي للأدب العربي من العصر الجاهلي إلى العصر الحديث، وعلى الرغم من غنى القاموس اللغوي لديّ، إلا أنني أبحث دائماً عن اللغة السهلة البسيطة القريبة من المتلقي، قد تكون الكتابة لديّ قصدية، وفي أحيان أخرى تكون عفوية؛ فقد أستيقظ من النوم لأخطّ نسخةً بدائية لقصيدةٍ ما، ثم أعمل فيما بعد على صقلها وتهذيبها لتصبح بشكلها النهائي، فالقصيدة تبدأ بتماس كهربائي يحدث في الدماغ ينتج عنه ولادةٌ قد تنمو وتكتمل، وقد تموت في مهدها. أما في القصة، ففي أغلب الأحيان أودّ إيصال فكرة محددة إلى المتلقي، فأقوم بتغليف الفكرة بقالبٍ قصصيٍّ مناسب وأخلق لها شخصياتٍ تخدمها وتمسك بيدها إلى أن تكتمل. لم أكتب في النقد الأدبي لأنني أعدّه خطاً شديد الحساسية والأهمية، فلا يجوز الدخول في هذا المجال إلا لمن كان على درايةٍ تامة بكافة أركانه ودهاليزه، ففي يد الناقد الارتقاء باللغة والأجناس الأدبية، وفي يده أيضاً إفساد الذوق العام والمساهمة في نشر ثقافة الإسفاف والترهل الأدبي».

تكريم الحلبوني بالأرجنتين

وعن وجود الأدب في حياتها قالت: «لم ألمس تغيراً على الصعيد الشخصي بعد دخولي عالم الأدب سوى الشرود والقلق والأرق، فأنا أمارس حياتي العادية ولا أنخرط في أنشطة ثقافية إلا نادراً، وعلينا هنا أن نعترف بأن الملتقيات الأدبية ليست على ما يرام، ولا أقصد أنها كذلك منذ بداية الحرب، بل قبل الحرب بسنوات؛ فالوجوه نفسها لا تتغير، وقد يخلط من يسمي نفسه شاعراً بين الأحرف اللثوية، والأحرف الأسلية، وقد يرفع المجرور وينصب المرفوع ثم يصفق له الحضور تصفيقاً طويلاً. كما أستثني بعض النشاطات الشبابية التي ظهرت مؤخراً، والتي تهتم بالمواهب الحقيقية وتبشّر بواقع أفضل».

وعن أهمية الشعر ووجوده في حياتها، وفوز قصيدتها "حلم الجندي" بمسابقة عالمية حدثتنا قائلة: «الشعر بالنسبة لي هو الجنون والسحر والدهشة، والهروب من الواقع المؤلم إلى عوالم أخرى. أسعى دائماً من خلال قصائدي وقصصي إلى تحريض خيال المتلقي وإثارة الأسئلة وتحريك المشاعر المختلفة لديه بقالبٍ بسيط بعيد عن التعقيد. اخترت قصيدة "حلم الجندي" للمشاركة في المسابقة التي أقامتها الجامعة الكاثوليكية في مدينة "سانتياغو" في "الأرجنتين" ضمن مؤتمر الفن والسياسة بدورته 17 لعام 2018، وقد قامت الشاعرة "كراسيا العوض" المقيمة في "الأرجنتين" بترجمة القصيدة إلى اللغة الإسبانية، ووقع اختياري على تلك القصيدة لأنها تطرح قضيةً إنسانية نعانيها في بلادنا، وهي التوق إلى السلام والحياة المدنية، فأحببت أن يصل صوتي إلى النصف الثاني من الكرة الأرضية سواء فزت بالمسابقة أم لا، وحدث أن فازت قصيدتي بالمركز الثاني؛ وهو ما جعلني أشعر بالمسؤولية في مواصلة الكتابة والسعي للتقدم المستمر في مجال الأدب، وسبق أن فزت عام 2016 بمسابقة الهيئة العامة للكتاب لأدب الطفل المركز الثاني قصيدة بعنوان: "أمي"».

قصيدة الكاتبة "الحلبوني" التي حملت عنوان: "حلمُ الجندي" جاء فيها:

«في المحطة

يقف الجنديُّ طوال النهار؛

ينتظرُ حافلةً ملونةً وسائقاً مبتسماً

في الزقاق العتيق

يجرب أجراسَ كلِّ الأبواب؛

بحثاً عن جرسٍ له صوتُ الكناري

على قمةِ الجبل

يرفعُ رأسه نحو السماء؛

ينتظرُ غيمةً تمطرُ قلوباً وردية

في الحديقة

يجلسُ متربعاً على الأرض

يعبثُ بإصبعه بالرملِ الأحمر؛

يبحثُ عن طفلٍ حالمٍ لا يحملُ بندقية

في غرفةِ العمليات

يفتحُ الجراح جمجمته؛

ينتزعُ الألوان من رأسه

ثمّ يغلقها ويعيده إلى المعركة».

أستاذ الدراسات العليا في علم الدلالة ولسانيات النص والنقد الأدبي الحديث سابقاً "زياد العوف" خريج جامعة "ليون" "فرنسا"، أعطى رأيه بالأديبة "حنان" وقال: «اطّلعت قبل مدة وجيزة على بعض الكتابات الإبداعية للكاتبة "الحلبوني"، استوقفني ابتداءً تمكّنها اللافت من أدواتها الفنيّة من عناية واضحة باللغة ومفرداتها وتراكيبها؛ يتجلّى ذلك من خلال الانتقاء الدقيق للألفاظ المناسبة، وصياغتها بأسلوب سلِس، وعباراتها المعبِّرة عن المعاني والأفكار والمواقف، ثمّ إدراكها العميق لخصائص اللون الأدبي الذي تختاره، للتعبير الفني الجمالي عن الواقع الذي تلامسه بوعي مرهف يمزج بكفاءة عالية بين الواقع والخيال في صيغة إبداعية لها سمة التميّز والتّفرّد، أقصد بذلك امتلاك "الحلبوني" شخصيّة أدبية خاصّة بها. إنّها كاتبة قصصية، كما أنّ لها خواطر أدبية ذات لغة شعرية متألّقة، يمكن تصنيفها في إطار ما يسمّى (قصيدة النثر)، نظراً لكثافتها الدلالية ورهافتها الأسلوبية، وغناها الشعوري في قصتها "زهايمر"؛ حيث تعرض الكاتبة بأدوات قصصية واضحة السمات والآثار الاجتماعية والنفسية للحرب وأهوالها على الفرد والمجتمع. وتكوّن الحرب وفظائعها الأرضية الموضوعية لنصّها الإبداعي الجميل، الذي حصدتْ فيه جائزة قيّمة في "الأرجنتين"، لكنّ الأدوات التعبيرية تتناسب هنا مع الأفق الشعري للنص الدّال والعميق الذي ينتهي بمشهد مؤثّر في (غرفة العمليات)، حيث يتم إسدال الستار على هواجس الجندي الجريح تحت تأثير التخدير في غرفة العمليات؛ يفتح الجرّاح جمجمته، ينتزع الألوان من رأسه ثمّ يغلقها ويعيده إلى المعركة».

يذكر، أن "حنان الحلبوني" من مواليد "دمشق" عام 1975، تحمل إجازة في اللغة العربية وآدابها من جامعة "بلاد الشام" بدرجة امتياز، وتكتب القصة القصيرة وقصيدة النثر.